دعوات الاستقلال تضع الاقتصاد الاسكتلندي على المحك..
فجرت نتائج الانتخابات المحلية التي شهدتها المملكة المتحدة في السادس من هذا الشهر قضية، كانت بريطانيا في غنى عنها في الوقت الراهن على الأقل.
وأسفرت نتائج الانتخابات في اسكتلندا عن فوز الحزب الوطني الاسكتلندي بـ64 مقعدا من مقاعد البرلمان البالغ عددها 129 مقعدا.
حيث خرج الحزب من الانتخابات بوصفه أكبر حزب في اسكتلندا، لكنه لم يحقق النتيجة المرجوة لنيل الأغلبية، إذ حسن وضعه بزيادة عدد مقاعده البرلمانية مقعدا واحدا عن الانتخابات الماضية، لكنه كان في حاجة إلى مقعد آخر لتحقيق الأغلبية، مع هذا فإن وضع الحزب لا يزال قويا، حيث فاز حزب الخضر الاسكتلندي أحد حلفائه في عدد من القضايا المهمة بثمانية مقاعد.
الفوز الذي حققه الحزب الوطني الاسكتلندي وحزب الخضر نكأ جراح كانت الحكومة البريطانية تأمل أن تندمل. الحزبان يطالبان باستقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، ومع فوزهما بالأغلبية البرلمانية باتا يصران على أن الوقت ملائم لعقد استفتاء جديد لتقرير مصير اسكتلندا في المملكة المتحدة، وذلك على الرغم من أن الاستفتاء الذي عقد عام 2014 بهذا الشأن أسفر عن فوز القوى الراغبة فى البقاء ضمن الاتحاد البريطاني بنسبة 55 في المائة.
وبغض النظر عن تجدد الدعوات ومدى إمكانية قبول بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني بإجراء استفتاء آخر بشأن استقلال اسكتلندا من عدمه، فإن السؤال الرئيس الذي يطرح على الساحة الاقتصادية: هل يتمتع الاقتصاد الاسكتلندي بمقومات تؤهله للاستقلال، وهل إذا ما نالت اسكتلندا استقلالها يوما ما يمكن أن تكون دولة مستقلة اقتصاديا حقا عن باقي أجزاء المملكة المتحدة، وإذا كانت 60 في المائة من السلع الاسكتلندية تصدر حاليا إلى باقي أنحاء المملكة المتحدة فهل يمكن أن يكون هناك أي معنى أو مغزى لهذا الاستقلال؟
اسكتلندا لديها اقتصاد ناجح، مع نقاط قوة مثل الطاقة والخدمات المالية والسياحة، كما أنها غنية بالموارد الطبيعية، ولديها مؤسسات يمكن الوثوق بها.
وبينما يعد كثير من الخبراء أن عدد السكان الذي يقترب من 5.5 مليون نسمة مع مستويات تعليمية مرتفعة يمثل إضافة كبيرة إلى القوة الاقتصادية لاسكتلندا، فإن شيخوخة السكان تضعف تلك الميزة نسبيا.
وبينما يبلغ الناتج المحلي الإجمالي 166.8 مليار جنيه استرليني، فإن قضية عدم المساواة من القضايا المؤرقة للاسكتلنديين.
ورغم أن قاعدة النشاط الاقتصادي غالبا ما تعد أقل ديناميكية من منافسيها، فإن الإنفاق العام أعلى من المتوسط العام في المملكة المتحدة.
كما أن متوسط دخل الفرد يقترب من 31 ألف جنيه استرليني سنويا، ما يمنح الاقتصاد الاسكتلندي قوة شرائية مرتفعة، خاصة أن معدل البطالة يبلغ 4.2 في المائة، تضاف إلى ذلك قوة المراكز التعليمية الاسكتلندية، حيث يوجد فيها 19 جامعة ومركز تعليمي رفيع المستوى، وتستثمر اسكتلندا نحو ملياري جنيه استرليني سنويا في المجال التعليمي.
عوامل القوة تلك تعزز بطبيعة الحال من الدوافع الانفصالية لدى بعض التيارات السياسية ذات الطابع القومي، لكن لكون الإنفاق العام أعلى من باقي مناطق المملكة المتحدة، فإن هذا يعكس أيضا احتياجات أكبر في مجالات مثل الضمان الاجتماعي، وارتفاع تكاليف تقديم الخدمات، ومثل تلك التكلفة ستدفعها ثمنها اسكتلندا بالكامل في حال الاستقلال، بينما تتحمل الحكومة المركزية في لندن جزءا ملموسا منها حاليا.
مع هذا تجب الإشارة إلى أن متانة العلاقات الاقتصادية مع باقي أجزاء المملكة المتحدة، وتراجع عائدات النفط السنوية من ثمانية مليارات جنيه استرليني عام 2016/2017 إلى ما يزيد قليلا على مليار جنيه استرليني في المستقبل القريب تحد نسبيا من تلك الدعوات.
البروفسير إل. دي مارتن أستاذ الاقتصاد البريطاني في جامعة ويلز علّق قائلا: “الانتخابات المحلية الأخيرة كشفت أن المناطق الحدودية الاسكتلندية المتاخمة لإنجلترا صوتت لمصلحة البقاء في الاتحاد، وهذا يعني أن القطاعات الاقتصادية الاسكتلندية وثيقة الصلة بباقي اقتصاد المملكة المتحدة ستدافع عن البقاء ضمن الاتحاد البريطاني”.
ويضيف “لكن يجب أن نأخذ في الحسبان أيضا أن الاقتصاد الاسكتلندي في شهر آذار (مارس) الماضي نما للمرة الأولى منذ أيلول (سبتمبر) 2020، على الرغم من تراجع النشاط الاقتصادي في معظم أجزاء المملكة المتحدة، مع هذا حذر بنك اسكتلندا الملكي من وجود مؤشرات على التضخم، حيث تفرض الشركات رسوما أكبر بسبب زيادة التكاليف الناجمة عن نقص الإمدادات وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وفيروس كورونا”.
ويؤكد أن التعافي الاقتصادي في اسكتلندا في أعقاب جائحة كورونا خلال العامين المقبلين قد يتجاوز متوسط النمو في المملكة المتحدة، وبينما يتوقع أن ينمو الاقتصاد البريطاني بنسبة 4.6 في المائة هذا العام سيبلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في اسكتلندا 5.5 في المائة، وسيصل إلى 5.8 في المائة العام المقبل مقابل 5.6 في المملكة المتحدة.
تمنح تلك التوقعات الإيجابية بشأن أداء الاقتصاد الاسكتلندي حافزا قويا للقوى المطالبة بالاستقلال، وبقدرتها على تحقيق مستقبل اقتصادي جيد.
لكن البعض يرى أن هذا الأداء الجيد منبعه أن اسكتلندا جزء من المملكة المتحدة، وتستفيد من جميع المزايا الاقتصادية للاقتصاد البريطاني، وأنه في حال الانفصال فإنها ستقف بمفردها عاجزة عن تحقيق تلك المعدلات.
من جهتها، الدكتورة جين أستون أستاذة الاقتصاد الكلي في جامعة أدنبرة، “كشفت دراسة حديثة لكلية لندن للاقتصاد أن الاستقلال سيضر كثيرا باقتصاد اسكتلندا وسيترك البلاد أفقر إلى حد كبير مقارنة ببقائها في المملكة المتحدة، وأن التكاليف الاقتصادية للاستقلال ستكون أكبر بمرتين إلى ثلاث مرات من تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وذلك سواء انضمت اسكتلندا إلى الاتحاد الأوروبي، أو حافظت على سوق اقتصادية مشتركة مع المملكة المتحدة”.
وتضيف “لا شك أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي انعكس سلبا على دخل الفرد في اسكتلندا، حيث يتوقع أن ينخفض على الأمد الطويل بنحو 2 في المائة، لكن استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة سيؤثر في دخل الفرد بدرجة أكثر قسوة بما يراوح بين 6.3 و8.7 في المائة اعتمادا على نوع الحواجز التجارية المفروضة، وهذا يعني أن خسائر دخل كل فرد في اسكتلندا نتيجة الاستقلال ستراوح بين ألفين و2800 جنيه استرليني للفرد سنويا”.
مع هذا يراهن قطاع كبير من أنصار الاستقلال على أن انضمام اسكتلندا إلى الاتحاد الأوروبي بعد نيل استقلالها سيسهم في سرعة انتعاشها اقتصاديا، إلا أن الخبراء يعتقدون أن هذا سيتطلب نحو عشرة أعوام إضافة إلى أن تراجع وضع الاقتصاد الاسكتلندي في أعقاب الانفصال عن المملكة المتحدة سيدفعها إلى الإسراع في المدى القصير على الأقل إلى الحفاظ على سوق اقتصادية مشتركة مع بقية أنحاء المملكة المتحدة.
وربما تتفق تلك الرؤية مع كون المملكة المتحدة أكبر وأهم شريك تجاري لاسكتلندا، حيث تمثل أكثر قليلا من 60 في المائة من صادراتها و67 من وارداتها، ولهذا يتوقع فريق من الخبراء أن ينكمش الاقتصاد الاسكتلندي إذا أصبح مستقلا.
مع هذا يرى هاردي وولف الباحث الاقتصادي أن مشكلات الداعين إلى الاستقلال تكمن في عدم إجابتهم عن الأسئلة الاقتصادية الكبرى، فالنموذج الاقتصادي الذي طرحوه في استفتاء عام 2014 كان قائما على استمرارية العلاقة مع اقتصاد المملكة المتحدة، حيث اقترحوا حينها الاحتفاظ بالجنيه الاسترليني حتى بعد الاستقلال، وإيجاد نظام مالي يتلاءم مع قواعد بنك إنجلترا.
ويقول: “إن المشكلة الآن أكثر تعقيدا مما مضى، فالحجة الرئيسة للاستقلال هي أن اسكتلندا بحاجة إلى الابتعاد عن بريطانيا بعد أن خرجت من الاتحاد الأوروبي، ومن ثم التوافق الاقتصادي مع لندن لم يعد قابلا للتطبيق، ولهذا فإن المطالبين بالاستقلال يدعون إلى عملة خاصة، وقواعد مالية أقرب إلى الاتحاد الأوروبي، وهذا يرفع من التكلفة الاقتصادية للاستقلال ويجعل خسائره أكثر من فوائده في الأجلين القصير والمتوسط على الأقل”.
يشار إلى أن “معهد الحكومات” أفاد بأن اسكتلندا ستضطر إلى الانتظار مدة قد تقارب عشرة أعوام حتى تعاود الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إذا قررت اختيار الاستقلال عن المملكة المتحدة.
وأشار المركز البحثي إلى أن إيجاد آلية لتنفيذ تلك العملية “الاستقلال والانضمام” قد يستغرق الجزء الأكبر من عقد من الزمن، وقد يؤدي حتما إلى ظهور حدود صعبة مع إنجلترا.
وفي ذلك الصدد، يرى “الحزب القومي الاسكتلندي” أن بلاده أخرجت من الاتحاد الأوروبي “على عكس رغباتنا”، وتزعم نيكولا ستورجن الوزيرة الأولى أن مستقبل اسكتلندا يكمن في “أمة أوروبية مستقلة”.
وفي المقابل، بين تقرير جديد صدر عن “معهد الحكومات” أن طلب الانضمام إلى تلك الكتلة “الاتحاد الأوروبي” يعني على نحو شبه مؤكد، ضرورة الانتظار لفترة طويلة، وأن اسكتلندا لا بد أن تتبنى اليورو عملة لها.
ويضيف تقرير المعهد، “ربما يرحب الاتحاد الأوروبي بطلب الانضمام إليه من اسكتلندا المستقلة، لكن هذا لن يحدث إلا إذا استند ذلك الاستقلال إلى اتفاق مع حكومة المملكة المتحدة. وبموجب قانون الاتحاد الأوروبي، لا تستطيع اسكتلندا أن تتقدم بطلب رسمي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلا بعد تمكنها من تأمين استقلالها عن المملكة المتحدة، وقد تستغرق تلك العملية برمتها الجزء الأكبر من عقد من الزمن”.
وكذلك وجد الأكاديميون في المعهد أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قد يعني على الأرجح انضمام اسكتلندا المستقلة إلى السوق الموحدة والاتحاد الجمركي، ما يعني تحول الحدود الإنجليزية – الاسكتلندية حدودا قانونية جديدة للاتحاد الأوروبي.
وحتى إذا جرى تبني نموذج أكثر مرونة للانضمام، على غرار انضمام اسكتلندا إلى المنطقة الاقتصادية الأوروبية، فلن يعني ذلك الوصول السلس إلى أسواق الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة.
وجاء في تقرير “معهد الحكومات” أنه “باعتبارها دولة عضوا في الاتحاد الأوروبي، لن تجد اسكتلندا خيارا غير فرض قيود جمركية على السلع، فضلا عن فرض ضوابط تنظيمية على بضائع كالمنتجات الحيوانية والنباتية”.
وأضاف المؤلفون في المركز البحثي اللندني، الذين لا يعدون من اليسار أو اليمين، أن “الحاجة إلى بنية تحتية حدودية جديدة ستستدعي فرض هذه القواعد”.
وفي مسار متصل، بعدما لاحظ المؤلفون أن الشركات الاسكتلندية تتاجر مع الاتحاد الأوروبي بنحو ثلاثة أمثال ما تتاجر به بقية المملكة المتحدة، نصحوا “الحزب القومي الاسكتلندي” بأن يكون “منفتحا” على “التكاليف والمنافع” المترتبة على عضوية الاتحاد الأوروبي.
تعليقات الفيسبوك