مخاطر تضخمية في لبنان
يتّجه لبنان اليوم في مسار انحداري حادّ. فمع ارتفاع سعر صرف الدولار الذي لامس 13000 ليرة آخر الأسبوع الماضي، ومع تسجيل عجز ميزان المدفوعات 10.5 مليارت دولار في نهاية السنة الماضية، لم تعد هناك آفاق واضحة للحلّ في المدى المنظور. لذا أصبح واضحاً أن هناك حاجة ماسّة إلى تدفقات مالية خارجية تأتي بالعملات الصعبة لتضبط الوضع قليلاً. هكذا، تكوّن جو عام عند أصحاب القرار في السلطة، مفاده أن لا مجال متوافراً إلا اللجوء إلى صندوق النقد الدولي. بدأت هذه السلطة بالتفكير في تنفيذ شروط الصندوق قبل أي برنامج معه. أوّل هذه الشروط المطروحة جدياً، رفع الدعم وتحرير سعر الصرف. المشكلة أن رفع الدعم، قد يحدث صدمة كبيرة من دون خطة شاملة تنظر في توقّي التبعات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن الرفع.
في ورقة مشتركة بعنوان «الدعم الحكومي اللبناني المضلّل يلتهم احتياطاته الأجنبية»، يشير وزير الاقتصاد راوول نعمة ومستشارته ليلى داغر، إلى أن كلفة الدعم تستنزف احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية «إذا استمرّ الدعم على حاله سيستنفد احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بنحو 7 مليارات دولار في عام 2021». الورقة تشير إلى أن خطّة وزارة الاقتصاد، والتي رُسمت بمساعدة فنية من البنك الدولي، تنصح بتحويل دعم السلع المستوردة إلى دعم نقدي للأسر للشرائح الأفقر في المجتمع. يبدأ برنامج الدعم المباشر بتغطية نسبة 80% الأفقر من اللبنانيين في السنة الأولى، لتصل هذه النسبة إلى 30% بعد 5 سنوات. وتكون دفعات على شكل 50 دولاراً شهرياً لكل شخص راشد (25 دولاراً لكل طفل) في السنة الأولى، على أن يصل هذا المبلغ إلى 30 دولاراً شهرياً لكل راشد (15 دولاراً لكل طفل) في السنة الخامسة. تتطابق الميزانيّة السنويّة لخطّة وزارة الاقتصاد مع الميزانيّة المقترحة في مفاوضات صندوق النقد الدولي لبرنامج دعم التضامن الاجتماعي. ويمكن دمج هذا البرنامج مع القرض الذي تمّت الموافقة عليه من البنك الدولي، والذي تبلغ ميزانيته 246 مليون دولار وبحسب الورقة، من المقدّر أن يؤمّن هذا البرنامج توفيراً بنحو 13.7 مليار دولار من العملات الأجنبية على مدى السنوات الخمس لهذا البرنامج. يقترح نعمة وداغر، دفع الأموال عبر بطاقات مسبقة الدفع، مع أهميّة أن يكون هذا الدعم بالدولار حتى لا تزيد الكتلة النقدية المتداولة بالليرة تفادياً لنتائج تضخمية وخيمة إذا اعتُمد الدفع بالليرة، فضلاً عن تجنّب مخاطر التغيّر في سعر الصرف التي قد تؤثّر على قيمة المبالغ المدفوعة بالليرة.
قد يكون رفع الدعم خطوة ملائمة لتحسين الأرقام الدفترية لمصرف لبنان وللموازنة العامة، مثل خفض الهدر في الاحتياطات بالعملات الأجنبية، وخفض العجز في موازنة الدولة. لكنّ احتساب هذه الخطوة بصورة معزولة، لا تدخل فيها حسابات الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي قد تترتب على قرار كهذا، قد يكون أمراً تضليلياً، كما احتسب قرار بدء الدعم الذي ترك الباب واسعاً لتعدّد أسعار الصرف والهدر. بهذا المعنى، إن الأرقام الدفترية لا تعكس الصورة بشكل كامل وإن كانت تُظهر نجاحاً على جانب ما، فهذا لا يعني أن النجاح هو النتيجة الفعلية في الصورة العامة، بل قد يكون كارثة. خطوة رفع الدعم، يجب أن تُحسب أكثر من خطوة البدء به، ولذلك يجب أن تترافق مع خطة شاملة لمواجهة التداعيات والنتائج.
رفع الدعم بصورة معزولة عن أي خطة شاملة وعن الأثر الاقتصادي والاجتماعي الذي سينتج عنها قد يكون كارثياً
فمن الآثار الاجتماعية التي قد تنتج عن رفع الدعم، ارتفاع نسبة الفقر في المجتمع اللبناني إلى أكثر من 53% وهي النسبة التي أشارت إليها «إسكوا» في تقرير صادر في تموز الماضي. ويحصل هذا الأمر من خلال مسارين:
– الصدمة التي قد تحصل لسعر الصرف في حال رفع الدعم. إذ سينجم عن ذلك، طلب إضافي على دولار السوق الموازية بسبب رفع الدعم، ما سيؤدي إلى خفض القيمة الفعلية لأجور اللبنانيين، إضعاف قدرتهم الشرائية أكثر. فالسلع المدعومة التي تكلّف 7 مليارات ليرة في سنة 2021، بحسب ورقة راوول وداغر، يأتي الطلب على دولارها حالياً من مصرف لبنان، وليس من السوق، وبالتالي إن رفع الدعم سيحوّل الطلب من مصرف لبنان إلى السوق. صحيح أنه سيقلص استخدام مصرف لبنان للدولارات المحدودة التي يملكها، لكنه سيُشعل طلباً يوازي 70% من قيمة الاستيراد الإجمالي. بعبارة أوضح، سيشتعل سعر الصرف عند ظهور ملامح رفع الدعم قبل حصوله. طبعاً لن يكون الطلب في السوق بحجم 7 مليارات إضافية لأن الدولة ستضخّ نحو 1.5 مليار دولار في السنة الأولى، ثم ستنخفض في السنوات اللاحقة من خلال خطّة الدعم المباشر، وثانياً لأن رفع الدعم سيخفّض الطلب على السلع التي رُفع عنها الدعم، لكنه سيبقى طلباً معتبراً وكبيراً، يفوق 50% من الاستيراد. هذا يعني أن الطلب على الدولار في السوق الموازية سيرتفع وسيرفع سعر الصرف معه وستنطلق حلقة من التغذية الذاتية عبر مصدرين: سعر الصرف وتضخم الأسعار. سيكون لهذا الأمر تأثير مباشر على القدرة الشرائية للّبنانيين، وسيضع نسبة كبيرة منهم تحت خط الفقر.
– المسار الثاني يتعلق بارتفاع كلفة المعيشة بشكل مباشر، لأن السلع المرفوع عنها الدعم سيرتفع سعرها على إثر هذه الخطوة. كذلك سترتفع كلفة المعيشة بشكل غير مباشر بسبب ارتفاع سعر الصرف. الارتفاع في كلفة المعيشة، سيتزامن مع انخفاض قيمة الأجور والقدرة الشرائية، لا نتيجة له سوى ارتفاع معدلات الفقر في البلد.
لذا، من المهم النظر إلى ما ستكون عليه خطوات مواجهة ارتفاع معدلات الفقر. فتحويل الدعم إلى دعم مباشر لن يكون كافياً إذا لم يترافق مع خطوات أخرى. بالأخص أن خطّة الدعم المطروحة تقول إنه في السنة الخامسة من البرنامج، ستكون التغطية شاملة لنسبة 30% فقط من الشعب اللبناني، ما يعني أنه بحسب معدلات الفقر الموجودة الآن سيُترك 23% من الفقراء من دون حماية اجتماعية. هذه النسبة ستكون أكبر بكثير إذا احتسبنا نسب الفقر المتزايدة التي ستنتج عن خطوة رفع الدعم. فإن لم تكن هناك خطوات تُسهم في تحسين الوضع الاقتصادي، ومواجهة الارتفاع في معدلات الفقر، ستكون النتيجة أن شريحة كبيرة من اللبنانيين الفقراء ستُترك لمصيرها من دون مساعدة. هنا تتّضح أهميّة أن يكون رفع الدعم جزءاً من خطّة متكاملة، وليس خطوة فريدة تهدف إلى تحسين حسابات مصرف لبنان أو موازنة الدولة.
أما الآثار الاقتصادية، فقد تكون في ارتفاع كلفة سلسلة الإنتاج. هنا من المهم النظر إلى ما سيحدث لأسعار المحروقات في حال رُفع الدعم. لماذا المحروقات؟ لأنها العَمود الأساس للإنتاج في أي اقتصاد. ففي حال ارتفعت أسعار المحروقات، سترتفع كلفة استهلاك الطاقة، وخصوصاً أن خطّة رفع الدعم بحسب البرنامج المذكور تشمل رفع الدعم عن الكهرباء. وهذا يعني أنه إذا لم تترافق خطّة رفع الدعم مع خطّة لتحسين تغذية الكهرباء ستجد المصانع والمصالح نفسها أمام مشكلة كبيرة، لأن الطاقة التي ستوفّرها الدولة ستصبح مكلفة نظراً إلى ما هي عليه اليوم، وسترتفع الكلفة الكلية للطاقة اللازمة بشكل هائل مع رفع الدعم عن المازوت أيضاً، ما سيرفع كلفة إنتاج الطاقة عبر مولدات خاصّة. وهذا يشير إلى أن رفع الدعم بلا خطة شاملة، قد يقضي على آفاق التحسّن الاقتصادي لأنه يرفع كلفة الإنتاج ويُضعف تنافسية الاقتصاد.
ومن ناحية اقتصادية أخرى، يجب التركيز على ما قد يحدث في قطاع النقل في حال رُفع الدعم عن المحروقات. لهذا القطاع أهميّة كبرى على الاقتصاد بشكل عام، إذ أنه يشكّل العصب الأساسي لحركة تنقّل البضائع والعمال، وهما العاملان الأهم في عملية الإنتاج. مثلاً، إذا ارتفعت كلفة الانتقال من مكان الإقامة إلى مكان العمل سترتفع حصّة هذه الكلفة من أجر العامل وربما ستؤثّر على سلوكه الاستهلاكي، أو على عمله… أما إذا أصبحت كلفة نقل البضائع أكبر بأضعاف من كلفة نقلها الحالية، فسينعكس ذلك على أسعارها. هنا تكمن أهميّة وجود خطّة للنقل العام، تترافق أيضاً مع خطّة رفع الدعم لمواجهة هذه التحديات الكبيرة.
المصدر: الأخبار
تعليقات الفيسبوك