اقتصاد الهيدروجين الصيني قادم لا محالة

حين عقد مجلس الدولة الصيني مؤتمره الصحفي، لإعلان وتفسير 83 تعديلاً جديداً على تقرير العمل الحكومي، في مارس/اذار 2019، لم يستقبل الحضور الخبر بحماسة تُذكر؛ لكنَّ عدداً قليلاً من المستثمرين في الأسهم انتبهوا لأهمية الخبر، فمن بين التعديلات مقترحٌ لدعم تطوير وبناء محطات وقود للسيارات العاملة بتقنية خلايا الوقود الهيدروجيني، ولم يتمكن أحد من استغلال الخبر للمضاربة بالأسهم فوراً، لأنَّ المؤتمر عُقد خلال عطلة نهاية الأسبوع

وفي يوم الإثنين التالي، تأهَّب المراهنون الصينيون، وارتفعت القيمة السوقيَّة للأسهم المرتبطة بتقنية خلايا الوقود بأكثر من 4 مليارات دولار، خلال الدقائق الأولى من التعامل في البورصة، ووصلت عدة أسهم منها إلى سقفها اليومي.؛ بل واستمرت أسعار الأسهم في الارتفاع طوال الأسبوع، ومن المرجح أن تبقى كذلك مدَّة أطول.

أكبر سوق للسيارات الكهربائية

وبذلك، نجحت الحكومة الصينية في غضون أقل من عِقد من الزمان باستغلال سياسات الدعم الحكومي وغيرها؛ لإنشاء أكبر سوق للسيارات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات في العالم. وبالرغم من ذلك لا تخلو السوق من المشكلات والقيود، لذا تسعى بكين إلى تنويع اعتمادها على وسائل النقل الخالية من الكربون.

ومن هنا كانت تقنية خلايا الوقود الهيدروجينية، الوسيلة المفضَّلة لتحقيق ذلك بالنسبة للصين، لا سيَّما أنَّ بقية دول شرق آسيا (والولايات المتحدة الأمريكية أيضاً) تسعى جاهدةً لتطويرها أيضاً. ويعني ذلك أنَّ المستثمرين الصينيين كانوا محقِّين في دخول السوق مبكراً، خصوصاً بعد أن رأوا بأنفسهم الفرص الجديدة التي ظهرت نتيجة دعم الحكومة للسيارات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات.

وتتمتَّع خلايا الوقود بآلية عمل مشابهة للبطاريات، إذ توَّلد الكهرباء التي تُشغِّل المحرِّك والمركبة، وهذا هو وجه الشبه الوحيد تقريباً، فالبطاريات أكبر حجماً، وأثقل وزناً، وتحتاج إلى الشحن بالكهرباء، سواء تلك المولَّدة من مصادر الطاقة المتجددة أم غير المتجددة.

وفي المقابل، تولِّد خلايا الوقود الهيدروجيني الكهرباء، (بالإضافة إلى الحرارة والماء) بسبب تفاعل الهيدروجين مع الأكسجين، لذا فهي لا تحتاج إلى الشحن بالكهرباء، بل إلى خزانات للهيدروجين التي توضع في المركبة ذاتها.

وتُعدُّ تلك الخزانات أخف وزناً من البطاريات، وأكثر قدرةً على تخزين الطاقة (إذ تتمكَّن المركبة من قطع مسافات أكبر)، وفي حين أنَّ شحن البطاريات العادية يستغرق ساعات طويلة، فإنَّ شحن المركبات التي تعمل بهذه التقنية الجديدة يستمر دقائق معدودة، بما يشابه محرِّكات الاحتراق الداخلي التقليدية.

ليس الأمر بهذه السهولة بالطبع، وإلا لسيطرت سيارات الهيدروجين على قطاع سيارات البطاريات ككل (وتلك التي تعمل بمحركات الاحتراق الداخلي أيضاً)، إذ يواجه هذا النوع من السيارات عدة عوائق تمنعه من النمو والانتشار.

أولاً: تُعدُّ خلايا الوقود الهيدروجيني أغلى مكوِّناً من مكوِّنات السيارة، مما جعلها غير قادرة على منافسة السيارات التي تعمل بالبطاريات عدة أعوام، وعلى سبيل المثال، يبلغ سعر بيع سيارة “ميراي” (Mirai)، السيارة التي تعمل بخلايا الوقود الهيدروجيني التي تتفرد بها شركة تويوتا اليابانية (Toyota) 70 ألف دولار أمريكي تقريباً (دون الدعم الحكومي)، في حين يقلُّ سعر بيع السيارات الكهربائية الصينية التي تعمل بالبطاريات عن 10 آلاف دولار.

ثانياً: قد تكون خلايا الوقود الهيدروجيني نظيفة الاحتراق، لكنَّ الهيدروجين نفسه يُولِّد من الوقود الأحفوري في كثير من الأحيان، بما في ذلك الفحم، ويشكِّل هذا الأمر مشكلةً، إذا كان الهدف من استخدامها تقليل انبعاثات الكربون.

ثالثاً وأخيراً: هناك مشكلة ارتفاع تكاليف البنية التحتية المتعلقة بالهيدروجين (من خطوط الأنابيب إلى محطات الوقود) وندرتها، ففي الصين تُقدَّر تكلفة إنشاء محطة وقود الهيدروجين بنحو 1.5 مليون دولار أمريكي، مما يجعل من الصعب على المستثمرين اتخاذ قرار الاستثمار في هذه التقنية، خاصةً مع انخفاض عدد السيارات التي تعمل بتقنية خلايا الوقود الهيدروجيني بالبلاد (وعددها أقل من 5 آلاف سيارة فقط).

عقبات مماثلة

وفي أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، واجهت الصين عقباتٍ مماثلةً حين كانت تتطلَّع إلى أن تصبح قوة عظمى في مجال السيارات التي تعمل بالبطاريات الكهربائية، ففي ذلك الوقت لم يكن للسيارات الكهربائية وجود يُذكر في الصين، ولم تكن هناك بنية تحتيَّة لشحنها، ولم تتوافر أيَّة تقنيات، أو شركات تعمل في هذا المجال.

وأطلقت الحكومة الصينية برنامج “تين سيتيز، ثاوزند فيكلز” (Ten Cities, Thousand Vehicles ) عام 2009، وهو برنامج يهدف إلى رفع مبيعات السيارات الكهربائية عبر مجموعة من المشروعات التجريبية واسعة النطاق. والآن، بعد مرور عشرة أعوام فقط، وتقديم عشرات المليارات من الدولارات من الدعم الحكومي وفرض السياسات الداعمة؛ أصبحت الصين عملاقة السيارات الكهربائية في العالم بأسره.

وهنا يفرض سؤال نفسه: هل تُكرِّر الصين إنجازها الساحق مع تقنية خلايا الوقود الهيدروجيني؟ ستحاول على الأقل، وهذا مؤكَّد، فقد أعلنت في عام 2015 أنَّها تهدف إلى وضع مليون سيارة من هذا النوع على طرقاتها مع حلول عام 2030، فضلاً عن تنامي التطلعات والاندفاع في مجال تقنية خلايا الوقود، خلال العام 2018، الذي يترافق مع التزام العديد من الشركات والمدن في نشر هذا النوع من السيارات، وتوفير التقنية، والبنية التحتية اللازمتين له.

ولعلَّ أول بادرة على حدوث تغيير ما جاء في شهر يناير 2019، حين نشرت صحيفة الأوراق المالية المدعومة من الحكومة الصينية “سيكيوريتيز جورنال” (Securities Journal)، خبراً يفيد باستعداد حكومة بكين لإعادة إطلاق برنامج “تين سيتيز، ثاوزند فيكلز”، ليكون خاصَّاً بالسيارات التي تعمل بخلايا الوقود الهيدروجيني هذه المرة.

التفوق الصيني

صحيح أنَّ الأمر لن يكون سهلًا، لكنَّ الصين لديها عدة مميزات تجعلها متفوِّقةً على منافسيها؛ لكونها تتمتَّع بالاستقرار السياسي (بخلاف كوريا الجنوبية، التي تعثَّرت حملتها لاستخدام الوقود الهيدروجيني في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بسبب تغيُّر قيادتها السياسية).

كما تتفوَّق الصين على العالم في صناعة الطاقة المتجددة، وتولِّد كميات هائلة من الطاقة المهدرة التي يمكن تخزينها، واستخدامها في أغراض أخرى. ويمكن الاستفادة من هذه الطاقة الناتجة في توليد الهيدروجين، الذي يمكن تخزينه ونقله بعد ذلك.

وأخيراً تتمتع الصين بموارد مالية كبيرة، ورغبة شديدة في الإنفاق على البنى التحتية دون توقُّع نتيجة مستقبلية في أسواقها المالية، مما يصبُّ في صالح التزامها بإنشاء محطات الوقود الهيدروجيني والتجهيزات المرتبطة به، حتى إن كانت غير ضرورية في الوقت الراهن.

في نهاية المطاف، لابدَّ للصين من التغلب على العقبات الفنية، والسوقية الهائلة لإنجاح مساعيها، لكنَّ النجاح الذي حقَّقته في تأسيس صناعة السيارات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات، سيضمن لها بالتأكيد أحقيتها بالمشاركة في السباق على الأقل، هذا إن لم تصبح الرائدة في القطاع، وذلك في المرحلة المقبلة المرتكزة على خفض انبعاثات الكربون. وأمَّا بالنسبة للمستثمرين الصينيين؛ فإنَّه رهانٌ يستحقُّ المخاطرة.