“البريكست” يعيد رسم السياسات الاقتصادية لبريطانيا

حين بدأت بريطانيا مفاوضاتها للخروج من الاتحاد الأوروبي، كانت جميع المؤشرات تؤكد أن اقتصادها سيتلقى صفعة عكسية جراء هذه الخطوة، أما الآن وقد أصبحت بريطانيا خارج أسوار الاتحاد رسمياً بعد عضوية دامت 47 عاماً، فثمة مؤشرات وتغيرات مقلقة رسمتها منظمات وهيئات دولية ليس للاقتصاد البريطاني فقط، وإنما لاقتصادات الاتحاد الأوروبي أيضاً. وعلى الأرجح ستمتلئ على أثر الخروج كثير من الأوراق لتعيد رسم العلاقة بين بريطانيا والاتحاد من جهة، وبينها وبين العالم من جهة أخرى.

وداعاً للاقتصاد الكبير                                                    

كانت المملكة المتحدة تحتل المرتبة الثانية على مستوى الاتحاد الأوروبي من حيث الناتج المحلي الاجمالي والخامسة على مستوى العالم، ومنذ أن بدأت مباحثات الانفصال عن الاتحاد الأوروبي في عام 2016 بلغت الخسائر الاقتصادية التي أحصتها وكالة بلومبيرغ الأميركية حوالى 130 مليار جنيه إسترليني (167 مليار دولار)، وتوقعت أن يضاف اليها خسائر بقيمة 70 مليار جنيه إسترليني (90 مليار دولار) حتى نهاية العام 2020.

الخبير الاقتصادي في بلومبيرغ دان هانسون قال إن “التكلفة الإجمالية للبريكست تقدّر بحلول نهاية عام 2020 بنحو 200 مليار جنيه إسترليني (نحو 260 مليار دولار)، حيث لا يزال عدم اليقين يؤثر سلباً على الشركات والمستهلكين، وذلك مع انتظار ما ستسفر عنه الفترة الانتقالية حتى نهاية العام في ما يتعلق بالصفقة التجارية التي تنظم العلاقة بين بريطانيا والكتلة”.

الاتحاد الأوروبي أمام مفترق طرق

يقف الاتحاد الأوروبي بعد خروج المملكة المتحدة ليجد نفسه أمام واقع جديد فرضه تصويت البريطانيين على الانفصال. أبرز التغيرات التي قد تطرأ على الاتحاد وفقاً لإحصائية أعدها موقع “ستاتيستا” يتمثل في تآكل نحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي لدول الاتحاد ليصبح 13.5 تريليون دولار بعد أن كان 15.9 تريليون دولار. وباعتبار المملكة المتحدة ثاني أكبر مساهم في ميزانية الاتحاد الأوروبي بعد ألمانيا، فإن خروجها يعني انخفاض ميزانية الاتحاد بنحو 12%. على صعيد آخر سيخسر الاتحاد الأوروبي 66 مليون مواطن هم تعداد سكان بريطانيا ليصبح تعداد مواطنيه 447 مليون نسمة.

اتفاقية التجارة الحرة؟؟

كان السؤال المطروح على ألسنة صناع السياسة الأوروبيين، هو ماذا ستؤول إليه اتفاقية التجارة الحرة؟ بل كانت هذه القضية هي الشغل الشاغل في كل اجتماع بين ممثلي المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي للاتفاق على خطوات الخروج.

حساسية هذه القضية تكمن في الانسحاب بحد ذاته، حيث يعني ذلك انفصالاً عن الاتحاد الأوروبي تماماً في جميع المجالات، ولن تسري بموجب ذلك الاتفاقيات التجارية الموقعة بين الاتحاد الأوروبي ودول العالم على بريطانيا، وما يبرهن أهمية الموضوع هو أن ثلث الصادرات البريطانية تتجه إلى الاتحاد الأوروبي والثلث الثاني يتجه إلى دول لديها اتفاق تجاري مع الاتحاد.

رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قال في أكثر من مناسبة إن بلاده تسعى للوصول إلى اتفاق للتجارة الحرة مماثل لما أبرمته كندا والاتحاد الأوروبي، ولكنه شدد على أنّ إي اتفاق تجارة حرة يجب ألا يحتوي بالضرورة على قبول قواعد الاتحاد الأوروبي، ولم يخفِ استعداده للانسحاب من المفاوضات، والالتزام بالنموذج الأوسترالي. ويشار إلى أن أوستراليا تمتلك اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي تتضمن تعرفة جمركية محددة على البضائع والمنتجات الزراعية.

ويكمن السؤال الأهم هنا، ماذا لو خرجت بريطانيا من الاتحاد من دون التوصل إلى اتفاق؟ في هذا الإطار، أجاب تقرير صادر عن  “مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية” (أونكتاد) عن هذا السؤال، حيث توقع أن مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق تجارة، سيكلفها خسارة  صادرات لا تقل عن 16 مليار دولار، بما يعادل فقدان نحو 7% من إجمالي صادراتها إلى الاتحاد.

وربما ستضطر بريطانيا للتعامل مع الاتحاد الأوروبي بالتعرفة الجمركية المعمول بها في منظمة التجارة العالمية التي تقدر بـ 1.5%، ولكنها ستواجه في الوقت ذاته تعرفة مرتفعة على بعض السلع، مثل السيارات وبعض المواد الغذائية، كما أنها ستضطر إلى اتباع القواعد الأخرى التي تنص عليها المنظمة مثل الفحص الجمركي على الحدود، وبالطبع في النهاية سيعني هذا تزايداً للأعمال الورقية.

بريطانيا تفتح صفحتها المنفردة مع العالم

تحاول بريطانيا أن تجد لها مخرجاً منفصلاً أو موازياً لاتفاقية التجارة مع الاتحاد الأوروبي، حيث وقعت اتفاقيات تجارة مع دول أخرى مثل تلك الموقعة مع كوريا الجنوبية والتي سيبدأ تنفيذها مع نهاية الفترة الانتقالية للخروج من الاتحاد الأوروبي المقررة في نهاية العام 2020. كما أنها اتفقت مع اليابان خلال زيارة قام بها وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب إلى طوكيو على بدء مفاوضات لإبرام اتفاق تجارة جديد بين الدولتين بشكل  يتطابق مع الاتفاق بين طوكيو والاتحاد الأوروبي. وأعلن وزير التجارة الأوسترالي سايمون برمنغهام أنه سيتم إبرام اتفاق تجارة حرة مع بريطانيا قبل نهاية عام 2020. وستدخل لندن أيضاً في مفاوضات موازية مع واشنطن الحليف التاريخي، بعدما أبدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب حماسة لهذا الانفصال معتبراً أنه يشكل آفاقاً اقتصادية جديدة.

القطاعات متضررة أيضاً

ترتبط ألمانيا بعلاقات تجارية قوية مع المملكة المتحدة، وتعد واحدة من أكبر أسواق التصدير بالنسبة لمصنعي السيارات الألمان. وبحسب تقرير صادر عن معهد “هالي” للبحث الاقتصادي، ستكون الضربات الأقسى على شركات فولكس فاجن، وبي إم دابليو، حيث تدير هذه الأخيرة مصنعاً في بريطانيا لسيارة “Mini”، كما لدى الشركة مصنع محركات بالقرب من برمنغهام، وقد تحصل مشاكل في تبادل المواد بين البلدين.

وعلى ما يبدو فإن حركة المسافرين من دول الاتحاد إلى بريطانيا وبالعكس سوف تتأثر لحين التوصل إلى اتفاق في هذا الخصوص، وتشير صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية إلى أن مواطني كلا المنطقتين كانوا ينتقلون بين الحدود باستخدام بطاقة الهوية الوطنية فقط، ولكن  بعد 31 ديسمبر/ كانون الأول 2020، لن يُسمح لمواطني الاتحاد الأوروبي باستخدام البطاقات الوطنية لدخول بريطانيا، وإنما يجب عليهم استخدام جواز السفر. كما ستفقد الشركات البريطانية حقها في السفر إلى مطارات الاتحاد الأوروبي نظراً لأن خروج بريطانيا من الاتحاد سيلغي حقها لتكون جزءاً من سوق حركة النقل الجوي الداخلية في الاتحاد.

لذلك فإن الكلمة الفصل هي أن كل نقطة خلافية ستحتاج إلى اتفاق يعيد رسم العلاقات بين طرفين كانا حتى وقت قريب كياناً واحداً وأصبحا الآن كيانين منفصلين. وربما تمثل الفترة الانتقالية التي ستعيشها بريطانيا ضمن الاتحاد والتي تمتد حتى نهاية العام 2020، فرصة مثالية لرسم التحالفات مجدداً.

__________________________
مجلة البنك والمستثمر
العدد 231