الانقاذ المالي أبرز تحديات الحكومة اللبنانية الجديدة

تشكلت الحكومة اللبنانية الجديدة برئاسة حسان دياب من دون أن تظهر مؤشرات لاطلاق مبادرة لحل الازمة المالية والاقتصادية. كثيرون لا يزالون يتخوفون من الوصول الى القعر بعد الانهيار الذي ضرب مختلف المؤسسات وأدى الى افلاس العديد منها، فيما هناك من يرى في مجلس الوزراء الجديد بارقة أمل وفرصة للإنقاذ، بينما اعتبر آخرون أن الأزمة هي في تأليف الحكومة نفسها غير القادرة على الشروع في الاصلاح وانقاذ البلد.

وقف النزف

الأولوية لعمل الحكومة الجديدة لا بد أن يتركز على انتشال البلاد من أتون أزمتها الاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة، وهو أمر يرتبط بالشارع وتحقيق مطالب الحراك الشعبي الذي لا يزال مصراً على حكومة انقاذ مستقلة، علماً أن الحكومة التي يترأسها دياب تشكلت بعدما تم توزيع الحصص على مكوناتها وهو ما أدى الى ردود فعل في الشارع، لم يمنع مجلس النواب اللبناني من الانعقاد واقرار الموازنة العامة للسنة 2020. في حين يعترف الجميع أن وقف النزف والانهيار لا يتحققان الا بمساعدة مالية خارجية تعيد تأمين الحد الادنى للاقلاع مجدداً وتجاوز الصعاب والازمات.
لكن المساعدات لا تبدو انها ستؤمن قريباً في ظل الخلافات السياسية الداخلية والانقسام اللبناني الراهن، علماً أن مصرف لبنان لا يزال يتحمل العبء الأكبر للحفاظ على ثبات العملة في ظل الازمة المصرفية، وإن كانت هناك سوق موازية تتحكم بسعر الدولار الأميركي في لبنان. وعلى هذا جاء الموقف الفرنسي الذي عبر عنه الرئيس إيمانويل ماكرون بقوله إن بلاده سوف تبذل ما في وسعها من أجل مساعدة لبنان، وهو الذي رعى باسم فرنسا مؤتمر “سيدر 1” الذي عقد في أبريل/ نيسان 2018، والذي من المفترض أن يمنح لبنان نحو 11 مليار دولار كهبات وقروض بفائدة 1.5% من دول وبنوك عربية وأوروبية وهيئات دولية، لاستثمارها في البنى التحتية وزيادة فرص العمل باشراف الجهات المانحة والمقرضة نفسها. علماً أن فرنسا والدول الأخرى والمانحين يشترطون الإفراح عن أموال “سيدر1” بتنفيذ عملية الإصلاح، بينما تربطه أطراف لبنانية بشروط سياسية أيضاً، وهي مرتبطة في شكل رئيسي بالعقوبات الاميركية.

الارتباك والازمة

منذ أن تشكلت الحكومة في النصف الثاني من كانون الاول/يناير 2020 وقع عدد من الوزراء في التباسات عدة، فوزير المالية اللبناني الجديد غازي وزني لم يجد حرجاً في أن يصرح بحاجة لبنان إلى مساعدة خارجية، مشيراً إلى تطلع لبنان إلى تدبير قروض ميسرة من المانحين الدوليين تراوح بين أربعة إلى خمسة مليارات دولار لتمويل مشتريات القمح والوقود والأدوية. علماً أن سعر صرف الدولار لدى الصرافين تخطى الـ 2000 ليرة لبنانية بعد أن وصل قبل أسبوع من تشكيل الحكومة إلى 2500 ليرة للشراء.
ويرى وزني ان الحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة يعني أن “لا نشهد تقلبات حادة صعوداً أو نزولاً فيه”، أي ليس تثبيته على 1507 ليرات كما كان سابقاً، موضحاً تصريحه الأول الذي أشار فيه الى أن السعر لن يعود كما كان في السابق.
لكن الاهم بالنسبة الى اللبنانيين هو طمأنة المودعين على أموالهم في البنوك، إذ يتهافت اللبنانيون بشكل يومي على المصارف، لسحب أموالهم، منذ أكثر من شهرين ونصف الشهر، ما دفع المصارف إلى وضع سقوفٍ للسحوبات النقدية والائتمانية والتحويلات الخارجية تراوح بين الـ 200 والـ 300 دولار وفق سياسة كل بنك. في حين طالب حاكم مصرف لبنان بتنظيم السقوف على “الكابيتال كونترول”، الذي يشمل سقوفاً على السحوبات المالية والائتمانية إضافة إلى التحويلات النقدية، من دون أن يلقى رداً المسؤولين في الدولة.

اقرار الموازنة العامة

على رغم أن الموازنة كانت أعدتها الحكومة السابقة وناقشتها اللجان النيابية في مجلس النواب، ومع المواجهات التي حدثت في الشارع، وعلى وقع التظاهرات والإجراءات الأمنية المشددة، خارج منطقة مجلس النواب اللبناني المحصنة، نجح هذا المجلس مع رئيس الحكومة الجديد حسان دياب الذي حضر وحيداً الى الجلسة في إقرار الموازنة العامة للعام 2020، متجاوزاً كل العقبات القانونية وما اعتبره البعض مخالفات دستورية شابت الجلسة، فيما رأى فيها البعض الآخر حلاً واقعياً وإن لم يكن مثالياً.
لكن إقرار الموازنة العامة يعتبره البعض انه أكثر من ضرورة في الوقت الراهن، لا سيما ضمن مهلها الدستورية. وهذا الاقرار هدف الى ترتيب مدخل نيابي للحكومة الجديدة لمنحها الثقة وتأمين التشريع لإنفاقها مع العلم ان وزرائها لم يطلعوا على الموازنة، التي أعلن رئيس الحكومة تبنّيها. والمفارقة ان الموازنة هي ذاتها التي أقرتها الحكومة السابقة وتتضمن أرقاماً غير واقعية بعدما اعتبرتها موازنة اصلاحية ارضاء للحراك الشعبي، وهي لا تحدد العجز بدقة وقد تدفع البلاد الى مزيد من الازمات.

الأرقام

تبلغ الإيرادات العامة في موازنة 2020 بنحو 13395 مليار ليرة (نحو 8.9 مليارات دولار) وفق سعر الدولار الرسمي، بانخفاض بلغ 6491 مليار ليرة (4.3 مليارات دولار). أما النفقات الإجمالية فتبلغ نحو 18232 مليار ليرة (12.1 مليار دولار)، بينها نفقات إلزامية لا يمكن خفضها، تبلغ 14454 مليار (9.6 مليار دولار) وترتبط بخدمة الدين العام والرواتب والأجور والمنافع الإجتماعية. وبإضافة الموازنات الملحقة، تقدّر النفقات بنحو 20393 مليار ليرة (13.59 مليار دولار) بانخفاض بلغ 802 مليار ليرة (0.53 مليار دولار).
وتكمن مشكلة الموازنة معطوفة على الأزمة المالية والمصرفية وامتداداً الاجتماعية والمعيشية، في أن ارقامها غير نهائية وغير دقيقة ايضاً، وهي ترتبط بما ستؤول إليه الأوضاع الاقتصادية والمالية لا سيما لجهة التضخم والإنكماش الاقتصادي، وما يمكن أن يرافقها من تراجع في العائدات والجباية وغيرها… مع العلم أن هناك مشكلة كبيرة في ايرادات الدولة منذ ان انطلق الحراك الشعبي، وهو ما سينعكس على أرقام الموازنة وعلى الرواتب للقطاع العام أيضاً وعلى انفاق الدولة.

العجز

يقدّر العجز الرسمي في موازنة 2020 بنسبة 7.09 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي GDP، الذي قدّرته الموازنة بنحو 89298 مليار ليرة (59.5 مليار دولار) مع احتساب معدّل التضخّم 2.8 في المئة عام 2019، ونسبة الدين العام الى الناتج المحلي بنسبة 151 في المئة. علماً أن عدداً من الخبراء يعتبرون أرقام الموازنة منفوخة لجهة الإيرادات. وقد جرى تفاهم مع مصرف لبنان بإجراء معالجة لنحو 4500 مليار ليرة ينتهي مفعولها بانتهاء العام 2020، ليعود هذا المبلغ ويظهر في مشروع موازنة العام 2021.
ويُضاف ذلك إلى إجراء آخر موقت يرتبط بالمصارف، وهو فرض ضريبة استثنائية على حجم أعمالها لسنة واحدة فقط عن العام 2020 بنسبة 2 في المئة. وتقدّر إيراداتها ما بين 500 و600 مليار ليرة.
وفي الموازنة إقرار تجميد وتعليق الإجراءات الناجمة عن التعثر في سداد القروض السكنية حتى نهاية شهر حزيران 2020، أي 6 أشهر من تاريخ نشر الموازنة، وما يسري على القروض السكنية، يسري على القروض الصناعية والزراعية. وجرى تمديد مهل جباية الرسوم والمستحقات الضريبية على أنواعها الواردة في موازنة 2020 حتى نهاية شهر حزيران/ يونيو 2020، تماشياً مع الظروف القاسية التي يعيشها المواطن اللبناني.
وتضمنت الموازنة بنداً يقضي بتحويل إيرادات شركتي الخليوي مباشرة إلى الخزينة العامة وليس الى وزارة الإتصالات، كذلك تحويل إيرادات مرفأ بيروت إلى الخزينة مباشرة.
وجرى إقرار رفع قيمة الضمان على الودائع المشمولة بضمانة مؤسسة ضمان الودائع المصرفية من 5 ملايين إلى 75 مليون ليرة.
لكن الحكومة لا تستطيع الاقلاع ما لم تعالج أزمات عديدة، تدخل كلها في الخانة الاصلاحية. لا مجال الا لمعالجة وضع صرف العملة وكسر منطق السوقين وكذلك مسألة ميزان المدفوعات قبل أن يواجه الاقتصاد صعوبات بما في ذلك خدمة الدين الخارجي، ونقص السلع المستوردة، وانخفاض قيمة العملة، والانكماش الاقتصادي. كذلك لا بدمن مواجهة العجز في الخزينة، لأن تمويله بات عبئاً كبيراً ويؤدي الى نتائج كارثية. إضافة الى العمل مع مصرف لبنان على اعادة ترتيب وضع القطاع المصرفي واطلاقه مجدداً انطلاقاً من ضمان ودائع اللبنانيين.

#مجلة_البنك_والمستثمر
#العدد_230