لبنان المتغيّر على مفترق طرق مصيري
صورة لبنان قبل 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 ليست نفسها بعد 29 منه، أي بعد استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري على وقع انتفاضة شعبية استمرت 13 يوماً رفضاً للضرائب ومطالبة برحيل الطبقة السياسية وباستعادة الاموال المنهوبة ومكافحة الفساد. والصورة أيضاً لن تكون ذاتها بعد 30 من الشهر عينه بعدما دخلت الأمور في منعطف جديد بدأ يشوّه مطالب الانتفاضة وحراكها على مستوى لبنان ويدخلها في نفق الطائفية.
أزمة البلد
استقال الحريري، لكن الازمات في البلد لم تنته. أزمة مالية واقتصادية ضربت كل القطاعات ومضاربة على العملة الصعبة جففت الدولار الأميركي من السوق، ومخاوف بدأت تظهر من ثمن باهظ يدفعه البلد، ومن فوضى قد تؤدي إلى الانهيار، ذلك أن الدولار صعد مثلا في السوق السوداء الى أكثر من 1800 ليرة، مع اقفال المصارف لمدة تجاوزت الأسبوعين ومعها كل المؤسسات العامة والمدارس والجامعات، وتوقفت أيضاً عمليات التحاويل الى الخارج، على رغم أن حاكم مصرف لبنان رياض سامه بذل جهودا كبرى لإبقاء السعر الرسمي المتداول للدولار، وأنهى أزمات شراء المحروقات والقمح والدواء، بتوفيره الاموال للاستيراد عبر المصارف. لكن ملامح النقمة الشعبية والانفجار الاجتماعي كانت حاضرة ضد الحكومة، إذ أن كثيراً من الناس لم يعد لديهم ما يخسروه، فنزلوا الى الشوارع، قبل استقالة الحريري وفرضوا استقالته، مطالبين بحكومة جديدة تحمل برنامجاً إصلاحياً شفافاً، لإعادة الثقة.
انتفاضة تتجاوز الواتساب
لم تكن انتفاضة اللبنانيين بسبب زيادة 20 سنت على مكالمات تطبيق الواتسآب المجانية، التي اقترحها وزير الاتصالات محمد شقير، والذي انتقده المتظاهرون على أنه أحد رموز الهدر. فاقتراح هذا الرسم الجديد، كان القشة التي قصمت ظهر البعير، خصوصاً أن الناس لم تعد تحصل على أي تقدمات اجتماعية واقتصادية. وبالنسبة إليهم طفح الكيل من استمرار السلطة الحاكمة في ملء جيوبها، عبر استنزاف جيوب المواطنين، واحتكار الموارد، والمناقصات، والصفقات، ومن لا يُشارك أهل الحكم في أشغاله، تقف مصلحته. كما أن موجة الضرائب والرسوم الجديدة، التي حاولت الحكومة تمريرها، كانت الشرارة التي أيقظت اللبنانيين من سباتهم أخيراً فانتفضوا جميعاً، يريدون رحيل جميع رموز الفساد ومحاكمتهم واستعادة الأموال المنهوبة.
شرارة التحرك الشعبي
فجأة ومن دون سابق إنذار، وفي تحرّك عفوي، قطع اللبنانيون كل الطرقات، بالإطارات المحترقة والحجارة ومستوعبات النفايات، وكل ما يمكن استخدامه من أجل شل حركة المرور. حصل ذلك مساء 17 تشرين الأول/أكتوبر، فتعطلت حركة السير في المدن والقرى والشرايين الرئيسية التي تُغذي العاصمة بيروت. علماً أن الدين العام للبنان بلغ 90 مليار دولار في غياب سياسات اقتصادية حقيقية وإدارة للموارد في شكل وطنيّ وفعاّل، فبات اللبناني يطالب برحيل الطبقة السياسية الحاكمة. المتظاهرون تبرأوا من المندسين، واتهموا الأحزاب بإرسال أنصارهم لتحقيق هدفين: تشويه سُمعة الانتفاضة عبر تخريب الممتلكات، والتهويل لثني المواطنين عن التظاهر. حصل ذلك بعدما حاولت قوى سياسية وطائفية الدخول على خط الحراك واستغلاله لغايات أخرى، واستحضار صراعات طائفية، لكنها لم تنجح حتى في حرف المتظاهرين عن شعاراتهم، وإن كانت ظهرت هتافات من أقلية منهم أثارت ردود فعل وانتقادات من قوى سياسية أخرى رأت في الانتفاضة انها تتحرك بأمر قوى خارجية. خرج رئيس الحكومة سعد الحريري في 19 تشرين الأول/أكتوبر مخاطباً الناس من السرايا الحكومية. أمهل شركاءه في الحكم 72 ساعة، للتقدم بأفكار للإصلاح، وكأن الحمل ليس حمله أيضا، فتساءل الناس كيف تُصلح في 72 ساعة ما أفسدته الطبقة السياسية في عقود؟ هذا هو سؤال ال 90 مليار دولار. وسبقت خطاب الحريري، كلمة لوزير الخارجية جبران باسيل، رئيس التيار الوطني الحر، مباشرة من القصر الجمهوري، فقدم وعودا في ورقة الإصلاح التي تقدمّ بها نواب حزبه ولم يتبناها وزراء بقية الأحزاب في الحكومة، فيما اعترف حزب الله بوجود مشكلة معيشية وحياتية في البلد، لكنه طالب بالإبقاء على الحكومة خوفاً من الفراغ.
الورقة الاصلاحية
الواقع أن الانتفاضة لم تكن بحاجة الى دوافع، فالمعاناة الاجتماعية والصحية والبيئية والاقتصادية والمالية والوطنية شاملة وشديدة التأثير على المواطنين، وتطال معظم الشعب اللبناني، فيما بدا الافق مسدوداً لحلول سريعة ومواتية، فتعددت الساحات وانتشرت في المحافظات جميعها، وأعطت بعداً لا مركزياً للتحركات، وساهمت في جمع أكبر عدد من المعتصمين بلغ نصف الشعب اللبناني. اتخذت “انتفاضة الغضب” أبعادا ودلالات فاصلة خلال 13 يوماً وهي لم تكن مفاجئة لكثيرين، ذلك ان المد التصاعدي للتحركات الاحتجاجية في مختلف المناطق اللبنانية لم يتراجع ولم ينحسر أمام أول رد عملي للسلطة، الذي تمثل في تبني مجلس الوزراء الخطة الاصلاحية “الانقاذية” التي وضعها رئيس الحكومة سعد الحريري وأجرى في شأنها مشاورات سياسية واسعة قبل أن يتبناها مجلس الوزراء. هذا حصل في أول مرحلة من التحرك، لكن الورقة لم تقنع الشارع فتصاعدت الانتفاضة. القرارات التي اتخذها مجلس الوزراء والذي ألغى فيها الضرائب من موازنة 2020 بسحر ساحر وبنسبة عجز صفر في المئة، تعتبر الاولى من نوعها لجهة الخطوات الاقتصادية والمالية التي تضمنتها الخطة الاصلاحية مقترنة بإنجاز موازنة 2020 . علماً أن الدول المشاركة في مؤتمر “سيدر” ووكالات التصنيف الدولية عجزت سابقاً عن حمل السلطة ومكوناتها على تحقيق هذه الخطة وعلى التزام السقوف الاصلاحية الصارمة التي تطلبها عملية تأمين الدعم الدولي للبنان، فاذا بخمسة أيام فقط من الحراك أي في 22 تشرين الثاني/أكتوبر والذي عم لبنان يدفع الحكومة الى تبني احدى أكثر الخطط المتقدمة نسبياً ونوعياً على الصعيد الاصلاحي قياساً بالسياسات الحكومية السابقة المتعاقبة. لكن هذا التطور لم يبدل شيئاً في مسار التحركات الاحتجاجية التي تواصلت بزخم تصاعدي في رد مباشر على الخطوة الحكومية وتمسكاً بالمطلب المركزي للمحتجين المتمثل في استقالة الحكومة وتشكيل حكومة مستقلة تحصر مهمتها بإجراء انتخابات نيابية مبكرة.
هل يمكن إعادة النهوض؟
تضمنت ورقة الحكومة قبل أن يستقيل الحريري إجراءات إصلاحية جذرية للنهوض بالاقتصاد وتحفيز النمو، كما أقرت مشروع موازنة 2020 بنسبة عجز تبلغ 0.6 %، من دون فرض أي ضريبة، وأحيل على مجلس النواب. ومن أبرز المقررات: مساهمة القطاع المصرفي ومصرف لبنان في خفض العجز بقيمة 5100 مليار ليرة، زيادة الضريبة على أرباح المصارف، خفض رواتب الرؤساء والوزراء والنواب الحاليين والسابقين بنسبة 50 %، وخفض موازنات مجلس الانماء والاعمار وصندوق المهجرين ومجلس الجنوب بنسبة 70 %، إعداد مشروع استعادة الاموال المنهوبة وقانون إنشاء الهيئة الوطنية لمحاربة الفساد قبل آخر السنة الجارية، إقرار مشاريع المرحلة الاولى من مؤتمر “سيدر” وقيمتها 11 مليار دولار خلال 3 اسابيع. وتحدث الحريري كأنه شخص آخر في مقاربته للأزمة عندما تمنى الغاء النظام الطائفي، وأن الذي أقرته الحكومة هو “تغيير كامل في عقلية التعامل مع الامور في الموازنة، فالإنفاق في الحكومة والمؤسسات يكاد يوازي الصفر، وهو ما من شأنه إغلاق الباب على أي هدر وفساد، لان الحكومة لن تصرف أي قرش، وسيكون الانفاق بكامله من خلال الاستثمار الخارجي، إذ لن يقبل أي مستثمر خارجي بأي هدر أو فساد، واعتمادنا بأكمله سيكون على هذا الاستثمار، وهو الضامن للنمو”. فيما اعتبر رئيس مجلس النواب نبيه بري الاصلاحات التي أقرت بانها جيدة و“المطلوب تطبيقها في أسرع وقت وكان من الافضل ان تقترن بجملة من الاصلاحات السياسية مثل العمل على اطلاق عجلة الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية والتوجه نحو الدولة المدنية التي تبقى خشبة الخلاص للبنان”. لم يتفاعل الشارع مع إقرار الورقة الاصلاحية إذ ان أصداء الساحات كانت رافضة لمقايضة تحركاتهم بورقة إصلاحات كان يمكن للحكومة الحالية أو تلك التي سبقتها ان تقرها منذ سنوات طويلة. فاستعاد الشارع نبضه وامتلأت الساحات وسط إصرار على مطلب استقالة الحكومة ورحيل الطبقة السياسية واستعادة الاموال المنهوبة. وطالب المتظاهرون بخريطة طريق تبدأ بتشكيل حكومة مصغرة من التكنوقراط تنتج قانوناً انتخابياً يؤمن مرحلة انتقالية.
فئات جديدة
تظاهرات اللبنانيين الغاضبين من تردي الأوضاع المعيشية وفرض الضرائب لم تشبه أي حراك آخر. كانت المرة الأولى التي تعم فيها التظاهرات كل المدن اللبنانية وفي مناطق كانت تقدم الولاء المطلق، إن في الجنوب أو الشمال أو حتى في جبل لبنان، فيما بقيت بيروت القلب النابض الذي يستقطب ويحرك مسار التغيير. والواقع أن جيلاً جديدا خرج إلى الشارع عفويا غالبيته من طلاب الجامعات وتلامذة المدارس، واستقطب خلال أيام 3 فئات مختلفة، متحرراً من السيطرة الحزبية أو الطائفية السياسية ومن أي ولاءات مشروطة، ورفع شعارات تفاوتت بين اسقاط الحكومة وإجراء إصلاحات سريعة. ولم تستطع القوى المشاركة في الحكم أن تدخل على خط الحراك أو تجيره لحساباتها على رغم محاولات عدة، ليتبين أن لا أحد من المتظاهرين هتف بإسم زعيم سياسي أو رفع شعارات فئوية حزبية أو طائفية، ليتبين أن الشعب اللبناني الغاضب قد خرج عفوياً من مناطق مختلفة ومن فئات اجتماعية عانت إلى حد الاختناق، ولم ينتظر نقابة أو اتحاداً عمالياً، ولتكتشف الطبقة السياسية أن جمهوراً كان تحت عباءتها انتفض ليقول أن لا ولاء مطلقاً بعد اليوم، وليتهمها مباشرة بالفساد والنهب والمحاصصة، ما أدى إلى إرباكها وقلقها، علماً أن كثيراً من القوى حاولت توظيف الحراك الشعبي، وهو الذي تخللته أيضاً ممارسات شوّهت بعض صورته.
حراك متجدد
ولدت فئات شبابية جديدة، فيما الحراك أثبت استقلاليته وإن كانت هناك بعض الالتباسات في التمويل الذي يعود الى قوى خارجية، لكنها لم تغلب على عفوية الكثير من المتظاهرين الذين نزلوا بلا قرارات سياسية، وإن كان الحراك با قيادة يحتاج تبلورها إلى تراكم ومحطات كثيرة وهي تخرج فقط من داخل التظاهرات والحراك بالفعل ولا تسقط عليهما بالقوة. علما أن اتصالات أوروبية مكثفة تلقاها الحريري على سبيل المثال، دعته الى عدم الاستقالة والاستمرار في الحكم، حتى أن الفرنسيين كانوا أكثر تشدداً بموقفهم وطلبهم، لعدم ترك البلد، خصوصاً وأن هناك تعهدات بين الحكومة اللبنانية والجهات المانحة للخروج من المأزق المالي. لكن الحريري نفسه الذي لم يستطع اتخاذ قرار الاستقالة الا بعد 13 يوماً من الحراك، لم يستطع إقناع القوى الأخرى ببرنامجه الإنقاذي، وما قدمه أصلاً للخروج من الأزمة لم يقنع المتظاهرين. ولأن لبنان يعيش اليوم أخطر أزماته، فهو على مفترق طرق مصيري، أولاً بعد استمرار الاحتجاجات بعد استقالة الحريري واتخاذها أبعاداً سياسية وطائفية مختلفة عن الحراك الأول، إلا أنه لا يمكن القفز فوق ما حققته انتفاضة اللبنانيين بصفتها الجامعة والوطنية، وإن كنا اليوم أمام أخطار قد تأخذ البلد الى الفوضى، أو يخرج من يقود العملية الإنقاذية بعيداً عن الاصطفافات، إنطلاقاً من أن التحركات الشعبية عبرت أساساً عن الصرخة العارمة من الأوضاع المعيشية التي باتت تقارب المستحيل على أكثر من مستوى وفي غير مجال وجاءت تعبيراً عن تراكم الوجع من تزايد حالة الفقر ومن صعوبة تأمين أبسط الحقوق والمتطلبات من تعليم وطبابة ومن تزايد البطالة وتحول الجامعات الى مراكز لتخريج العاطلين عن العمل، فضلاً عن الارتفاع غير المسبوق في نسبة العجز وزيادة الهدر في ظل انعدام حصول المواطن على أبسط التقديمات الواجب على الدولة تأمينها من مياه وكهرباء ومعالجة مشاكل النفايات، علماً أن الموازنة قبل أن تقرها الحكومة الحالية التي استقال رئيسها كانت تتضمن ضرائب غير مسبوقة على المواطنين والقطاعات الانتاجية وحتى على القطاعات الاقتصادية وبنسب لم يشهد لها لبنان مثيلاً في تاريخه.
لا عودة إلى الوراء
لبنان تغير اليوم ولم يعد ممكناً العودة الى الوراء في ظل أزمة مستفحلة. بدأ الحراك يتحول الى صيغة مختلفة تدخل فيها حسابات أخرى سياسية وطائفية، علماً أنه في صيغته الأولى دفع السلطة الى البحث عن مخارج عدة بعدما فشلت خطط امتصاص الغضب وإنهاء الحراك، فيما انتفاضة الشارع لم تخرج منها قيادة موحدة، إذ أن أي طرف أو مجموعة لم تستطع تصدر المشهد، خصوصا وأن قسما من المتظاهرين لا يتبنى شعار إسقاط النظام. فهل يمكن القول أن لبنان سيدخل مسار الاصلاحات وترتيب الحكم على أسس من الشفافية والمساءلة تسمح بمعالجة الأزمة المالية والاقتصادية، أم ان الأمور يمكن ان تتصاعد في اتجاهات سلبية غير مأمونة العواقب في حال استخدام ما يحصل في اطار صراعات الخارج، وإدخال البلد في أتون صراعات حادة مشتعلة تودي به وتنهي كل ما هو مضيء. اسئلة تبقى مفتوحة أمام ما نشهده على كل المستويات، لذا بات واضحاً أن المرحلة التي يمر بها لبنان تستلزم التضامن من الجميع وإطلاق يد الذين أثبتوا انهم حريصون على مستقبل البلد والذين حموه من الانهيار النقدي والمالي قبل رفع شعارات تضع أصحاب الثقة في موضع الاتهام. وإلى أن يتنبه الجميع أن البلد في خطر حقيقي، لا بد من فتح الطرق في شكل نهائي بين اللبنانيين وان استمرت الاحتجاجات وإعادة العمل في مختلف القطاعات وفي مقدمها المصارف لتسيير شؤون الناس. أما التغيير فيحتاج الى محطات وتراكم ووقت ننزع منه كل الرهانات المتسرعة.
تعليقات الفيسبوك