الصابوني: التحوّل إلى سورية ما بعد الأزمة

الصابوني: التحوّل إلى سورية ما بعد الأزمة
قال رئيس هيئة التخطيط والتعاون الدولي في سورية الدكتور عماد الصابوني: إن العمل اليوم يجري وفقاً لمبدأ التخطيط القصير والمتوسط المدى، لأن التحرك بات ضمن ظروف متغيرة بسرعة كبيرة جداً، فالوزارات والجهات العامة في الدولة تضع خططها السنوية التي يجري تنسيقها في خطة جامعة تتمحور أساساً حول الاستجابات السريعة لمتطلبات الأزمة، كالصمود واستمرار عمل المؤسسات وإعادة الإعمار.
أضاف في حديث لمجلة البنك والمستثمر، أن الهيئة تعمل حالياً على مشروع “التحول إلى سورية ما بعد الأزمة” بالتنسيق مع وزارات الدولة كافة، عبر مراحل أربع، تشمل الإغاثة والتعافي والانتعاش ثم استدامة التنمية، وذلك لتمكين الاقتصاد السوري وإنجاز أعمال إعادة الإعمار اعتماداً على المؤسسات العامة السورية، بعد تأهيلها لذلك، وبالاستعانة أيضاً بالخبرات ورؤوس الأموال من القطاع الخاص، وكذلك بالدول الصديقة لسورية.
وفي ما يلي نص الحديث:

ما الذي اختلف في الاستراتيجيات بعد 2011 بين الخطط بعيدة المدى والآنية؟
هيئة التخطيط والتعاون الدولي هي ذراع فني تنفيذي أو بيت خبرة لدى مجلس الوزراء، وهي تعمل في هذا الإطار مع كل الجهات العامة، وتنسق الخطط الفرعية التي ستضعها هذه الجهات. ولا شك في أن هناك اختلاف بين “قبل وبعد” على مستوى الجهات العامة، ومنها الهيئة نفسها، لأن الهيئة (التي كانت سابقاً هيئة تخطيط الدولة قبل أن تصبح هيئة التخطيط والتعاون الدولي) كانت معنية بوضع وتنسيق ومتابعة تنفيذ الخطط الخمسية في الدولة، وآخرها الخطة الخمسية العاشرة، لأن الخطة الحادية عشرة لم تقر رسمياً بسبب دخولنا في الأزمة الراهنة، واليوم يجري العمل، على مستوى الحكومة كاملة، وفق مبدأ التخطيط القصير والمتوسط المدى، لأن التحرك بات ضمن ظروف متغيرة بسرعة كبيرة جداً لا تحتمل وضع خطة بعيدة المدى والعمل بموجبها. فالحكومة باتت اليوم تتعامل مع الأزمة لإيجاد الحلول للمشكلات الطارئة، وتضع رؤية قصيرة أو متوسطة المدى وتحاول الالتزام بها قدر الإمكان، مع إمكان التغيير المستمر بسبب الوسط المتغير، أي أننا لا نعمل اليوم ضمن خطة خمسية بل ضمن خطط سنوية تضعها الوزارات والجهات العامة في الدولة وتقوم على الاستجابات السريعة لمتطلبات الأزمة، كالصمود واستمرار عمل المؤسسات وإطلاق عمليات إعادة الإعمار بعد حصر الأضرار والعمل على إصلاحها قدر الإمكان، الى استمرار توفير الخدمات العامة كالكهرباء والموارد المائية والإتصالات والصحة والنقل والتربية والتعليم؛ أي باختصار إبقاء المؤسسات فاعلة خلال الأزمة.

هل نجحت هذه الآلية في تحقيق أهدافها؟
يمكن القول، إن الدولة السورية قد حققت نجاحاً ملحوظاً في هذا المجال، نظراً إلى أن البنى التحتية قد صمدت، واستمر عمل كثير من المؤسسات، سواء الخدماتية منها أم الإنتاجية. ولما كان العمل يسير من دون خطة خمسية، فقد أصبحت الهيئة تعمل بطريقة مختلفة عن السابق، عندما كان يخطط للمشاريع ضمن إطار خمس سنوات، أما اليوم فأولويات المشاريع تختلف تبعاً لتوافر الموارد المطلوبة، وأهميتها الاستراتيجية، والإيراد الذي يمكن أن تحققه، والذي يساعد في الإنفاق على أوجه أخرى، بالتنسيق مع وزارة المالية.

ألا يستوجب هذا الواقع نظرة مختلفة للمستقبل؟
بالفعل، ففي السنة الخامسة من الأزمة لا بد من النظر إلى المستقبل بطريقة جديدة، من ناحية التخطيط لإعادة البناء والآليات الاقتصادية المعتمدة لدى الدولة، وتحديد الأدوار، وهي نظرة يتضمنها برنامج بدأ العمل عليه في الهيئة منذ أكثر من سنتين، بهدف وضع خطة استراتيجية للتحوّل إلى سورية في مرحلة ما بعد الأزمة، وهذه الخطة تختلف في طبيعتها عن الخطط الخمسية من حيث ضرورة كونها أكثر مرونة وديناميكية للاستجابة للمتغيرات الطارئة، ومن حيث إنها ليست محددة في إطار زمني معروف سلفاً، ويُحدد هذا البرنامج أربع مراحل، يمكن اختصارها، بمراحل الإغاثة والتعافي والانتعاش والاستدامة، ونحن حاليا ما زلنا في مرحلة الإغاثة، التي تهدف إلى الاستجابة للمتطلبات الإنسانية الملحّة، مع الانتقال تدريجاً إلى التعافي، وبعد هذه المرحلة، ومع انتهاء الأزمة، تأتي مرحلة الانتعاش الاقتصادي التي سيجري فيها تدوير عجلة الاقتصاد مجدداً، مع استمرار الاهتمام بالجوانب الاجتماعية، وفي النهاية نصل إلى مرحلة استدامة التنمية، والتي سيجري فيها إعادة بناء الاقتصاد والمجتمع. وهنا لا بد من السؤال عن قدرة المؤسسات بوضعها الحالي في الاضطلاع بهذه المهمة، لجهة إنها في الواقع تحتاج إلى إصلاحات كبيرة حتى تستطيع القيام بذلك، لا سيما منها مؤسسات القطاع العام الاقتصادي، ولا بد من البدء بالإصلاحات منذ الآن لتمكين تلك المؤسسات من القيام بالمهام التي ستناط بها. هذا من جهة. ومن جهة أخرى تقوم خطة التحوّل إلى سورية في مرحلة ما بعد الأزمة على تشكيل مجموعة من اللجان القطاعية وتحديد الجهات الممثلة فيها، وستُعطى كل لجنة قطاعية مدة زمنية كافية، لتحدد، ضمن أطر وخطوط إرشادية معينة، احتياجاتها وإمكانيات الإصلاح والتنمية فيها، ولاحقاً، الدور الذي سيُناط بها في مرحلة الاستدامة، وتضع البرامج والمشاريع اللازمة. وقد تمت صياغة وثيقة توصيف هذا البرنامج، وأقرتها اللجنة الاقتصادية الحكومية وسنبدأ قريبا في تشكيل تلك اللجان التي ستضع الخطط القطاعية، ثم ستقوم الهيئة بتنسيق تلك الخطط للخروج بخطة شاملة موحدة لبرنامج التحول إلى سورية ما بعد الأزمة، ورفعها لإقرارها في مجلس الوزراء.

ما هي الأولويات الرئيسية في هذا البرنامج؟
الأولويات في البرنامج تختلف بحسب المراحل، فلكل مرحلة أولويات خاصة بها، ومن المقدر أن تحتاج اللجان القطاعية إلى ستة أشهر تقريباً لوضع تفاصيل الخطة وآلياتها التنفيذية، وفي نهاية هذه المدة سنكون أمام برنامج واضح المعالم. ولأن الظروف المحيط متغيرة وتتصف حالياً بالكثير من عدم اليقين، ستتميز هذه الخطة بإمكانية التعديل المستمر في الأولويات أثناء التنفيذ، للإستجابة للمتغيرات، وهو ما يجعلها مختلفة عن الخطط الخمسية التي كانت تتميز بنوع من الثبات النسبي.

إلى جانب الشركات السورية، هل الأولوية في إعادة الإعمار للأصدقاء أم المجال مفتوح للجميع؟
الأولوية في التنفيذ ستكون للمؤسسات السورية. وهذا خيار استراتيجي، حيث سيجري توفير جبهات العمل لتلك المؤسسات، بعد تمكينها، وإصلاح التشريعات الناظمة لعملها وتطوير هياكلها الإدارية، أو حتى دمج بعضها ببعض، وتدريب مواردها البشرية وتغيير آليات عملها، لتصل إلى هدفها بسرعة وكفاءة. إضافة إلى ذلك، هناك بالطبع فرص كبيرة للشركاء من القطاع الخاص والشركاء الدوليين، نظراً إلى الحاجة في بعض المراحل إلى الخبرات ورؤوس الأموال، فمسألة توفير التمويل من المكونات المهمة في برنامج التحول إلى ما بعد الأزمة، إذ لا بد من التفكير بمصادر التمويل الأخرى إلى جانب القطاع العام، ومنها الشراكات الطويلة الأمد مع جهات القطاع الخاص لتنمية الأصول الحكومية، مع إعادة تلك الأصول إلى ملكية الدولة بعد انتهاء الشراكة. ومما لا شك فيه إنه سيكون للدول الصديقة دور ملموس في إعادة الإعمار، وعليه، فإن مصادر التمويل تشمل التمويل العام والتمويل من القطاع الخاص والتمويل الخارجي الذي سيشمل الدول الصديقة الراغبة في المشاركة بإعادة الإعمار، وذلك في إطار الخطط الحكومية المقرة.

كم يبلغ متوسط تكاليف إعادة الإعمار في ظل تباين أرقامها التقديرية؟
من الصعوبة حالياً تقدير الأرقام على نحو دقيق، حيث يعمل عدد من الجهات العامة على حصر الأضرار، كوزارة الإدارة المحلية وهيئة التخطيط والتعاون الدولي وغيرها. نحن نتحدث أولاً عن الأضرار المباشرة، أي تلك التي أدت إلى تخريب ما كان قائماً، وإلى جانب ذلك، هناك كلفة المنفعة والفرص الضائعة التي تشكل خسائر إضافية، وما بين الأضرار الكلية والجزئية وفوات المنفعة والفرص الضائعة تتعدد الأرقام وتتفاوت بين جهة وأخرى، ولا بد من تدقيق هذه الأرقام قبل إعلانها، خاصة وأن حصر الأضرار مستمر الى الآن، بالتوازي مع وجود وسائل أخرى لتقرير الأضرار الإجمالية، ومنها مثلاً تقدير الفجوة بين المسار التنموي الذي كانت سورية سائرة به والوضع الراهن اليوم.

ما هو حجم التمويل الذي تقدمه المنظمات والجهات الدولية للخدمات العامة والأساسية؟
المساعدات التي تقدَّم عن طريق المنظمات الدولية (أي تحت مظلة الأمم المتحدة) حالياً، تندرج عموماً في إطار الإغاثة الإنسانية، لتمكين الجهات الخدماتية من الحفاظ على مستوى مقبول من الخدمات المقدمة للمواطن في مجالات عدة، منها الصحة والموارد المائية والغذاء والتعليم وغيرها. ومنذ مدة قريبة، بدأت المنظمات الدولية بالتوجه مجدداً إلى برامج تندرج في إطار الانتعاش والتنمية، وهي رؤية مشابهة لمراحل البرنامج الذي نعمل عليه، مع الاشارة الى ان برامج التعاون هذه تنسق سياسياً في وزارة الخارجية وفنياً في الهيئة، ونعمل اليوم مع منظومة الأمم المتحدة على وضع تفاصيل ما يسمى بالبرنامج الإطاري الجديد للتعاون مع المنظمات الدولية، وتشتمل المنظمات العاملة في سورية على منظمة الصحة العالمية وبرنامج الغذاء العالمي ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) ومنظمة العمل الدولية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) وغيرها، ويجري لدى الجهات العامة تحديد وتنسيق احتياجات القطاعات المختلفة في سورية، وتُناقش مع هذه المنظمات لتبنّي مجموعة من المشاريع المشتركة في سبيل تحقيق الأهداف المتفق عليها ضمن البرنامج الإطاري.

 

مجلــــة البنك والمستثمر
العــــدد 190
تشرين الأول