دول العالم تتجه إلى رقمنة عملتها الوطنية
ابتهج خصوم العملات الرقمية برفض البنك الدولي طلبا من حكومة السلفادور لتقديم المساعدة الفنية لها لاعتماد العملة المشفرة البيتكوين عملة رسمية.
البنك الدولي برر رفضه بمخاوفه بشأن الشفافية والتأثير البيئي لتعدين عملة بيتكوين. هذا الرفض قد يؤدي إلى إعاقة هدف الحكومة السلفادورية في جعل العملة الرقمية مقبولة في جميع أنحاء الدولة في غضون ثلاثة أشهر. بعد قرار السلفادور بات من الوأجب عن كل شركة قبول عملة البيتكوين كعملة قانونية للتداول وشراء وبيع السلع والخدمات، كان بهدف تسهيل عملية التحويلات المالية للبلاد، حيث يعتمد اقتصاد السلفادور بشكل كبير على تلك التحويلات المالية. وحتى إذا أخذ في الاعتبار مبرر رفض البنك الدولي بالتأثير البيئي السلبي لتعدين البيتكوين، فيمكن أن يغيب مبرر الرفض هذا في غضون فترة بسيطة، عندما يتم إيجاد طرق تعدين بديلة عن الطرق الراهنة، لتكون أكثر ودا وصداقة مع البيئة، أما الحديث عن المخاوف بشأن الشفافية فيتم العمل عليها حاليا من قبل عديد من أنصار العملات الرقمية لإزالة هذا السبب من قائمة الاعتراضات.
وبصرف النظر عن كل ذلك، فإن المؤكد الآن أن الحكومات والبنوك المركزية هي كيانات كان أنصار العملات الرقمية يأملون في جعلها من الماضي، تتجه بشكل متزايد نحو فكرة “رقمنة” عملتها الوطنية، أي أنهم يستعدون لإصدار نقود لا توجد إلا في العالم الافتراضي، بدون وجود ما يعادلها من العملات الورقية أو المعدنية، وفي ذات الوقت تكون مقبولة عالميا كشكل من أشكال الدفع. باختصار العالم ربما يكون أمام قفزة غير مسبوقة في عالم النقد، عندما تقوم البنوك المركزية بإصدار عملة رقمية مباشرة للجمهور، يمكن استخدامها كعملة رقمية بالطريقة نفسها التي يستخدم بها النقد اليوم، وما تجربة السلفادور إلا البداية ولكل بداية مصاعبها. ربما يكون السؤال البديهي لماذا تندفع البنوك المركزية نحو رقمنة عملتها الوطنية، وما الذي ستكسبه من ذلك؟.
يقول الدكتور ويليامسون هيندز أستاذ النقود والبنوك في كلية التجارة في جامعة كامبريديج، “بالنسبة للبنوك المركزية يوفر النقد الرقمي بديلا أكثر أمانا وأسرع وأكثر مرونة من الأوراق النقدية والعملات المعدنية، ومع انتشار تطبيقات الدفع الرقمي في كل مكان بشكل متزايد فإن عديدا من الدول تتجه نحو مجتمع أقل استخداما للعملة، فعلى سبيل المثال في عام 2018 لم يستخدم 30 في المائة من البالغين في الولايات المتحدة النقد على الإطلاق مقارنة بـ25 في المائة عام 2015، كما أن معاملات الدفع غير النقدية التي ارتفعت في الصين تزيد على 50 في المائة عام 2019”.
ويؤكد أن جائحة كورونا عززت أيضا قناعات البنوك المركزية بالاتجاه نحو رقمنة عملتها خشية انتشار الفيروس من خلال تداول النقد المادي، وكذلك الحاجة إلى التوزيع السريع والفعال لمدفوعات التحفيز. بالفعل بدأت الصين تجارب واسعة النطاق لليوان الإلكتروني، وعندما تصل الجماهير إلى أولمبياد بكين الشتوية، فإنهم سيستخدمون اليوان الرقمي في دفع تكاليف الإقامة في الفندق، وما يقومون به من مشتريات،
ويرغب المسؤولون في دول منطقة اليورو إطلاق اليورو الرقمي بحلول عام 2025، ويدرس “الفيدرالي الأمريكي” ما إذا كان سيحذو حذو أوروبا أم لا،
ويشير مسح لمجلة الايكونوميست الشهيرة إلى أنه في بداية العام الجاري كان أكثر من 80 في المائة من البنوك المركزية في العالم تدرس موضوع رقمنة عملتها الوطنية، وتستكشف المخاطر والمكاسب المحتملة لذلك، لكن هذا التوجه لا يحظى بقبول الجميع، إذ يحمل بين طياته من وجهة نظر بعض الخبراء مخاطر محتملة قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار المالي، فالبنوك المركزية الراغبة في دخول سباق العملات الرقمية يجب أن تدرك أن هناك كثيرا من الاعتبارات الأخرى التي يجب أن تقيمها أثناء الدخول في هذا السباق،
وعلى الرغم من إدراك معظم محافظي البنوك المركزية أن جوهر السباق هو الاستعداد للتعامل مع مستقبل مختلف للمال والمدفوعات، إلا أن هذا المستقبل لا يزال غامضا وغير محدد المعالم، على الأقل من وجهة نظر هؤلاء الخبراء. مثل تلك المخاوف تدفع الدكتورة إيدنا أستوكر استشارية اللجنة المالية لبنك إنجلترا إلى القول بأن البنوك المركزية يجب أن تقاوم الرغبة التي تنتابها الآن للتحول إلى شركات تكنولوجيا على مستوى التجزئة، وهو ما سيحدث إذا قامت بإصدار عملتها الرقمية.
إن “هناك مخاطر تكنولوجية يجب أخذها في الاعتبار، حيث إن إطلاق عملات رقمية للبنك المركزي من شأنه أن ينقل مخاطر التكنولوجيا الكبيرة إلى القطاع العام ودافعي الضرائب، لهذا من الأفضل أن تظل العملات الرقمية نشاطا حرا ويخضع لإشراف القطاع العام عبر البنك المركزي”. وتضيف “كما أن التهديدات السيبرانية يجب أخذها في الاعتبار بشدة، فالتحول إلى العملات الرقمية من شأنه تضخيم نقاط الضعف السيبرانية المنتشرة التي يمكن للهاكرز اختراقها، وعلينا أن نتذكر دائما أن الثقة هي جوهر النظام المصرفي، فإذا أدت تلك الهجمات إلى تآكل الثقة في الخدمات المصرفية، فإن ذلك يزعزع الاستقرار المالي”. لا شك أن مخاوف زعزعة استقرار النظام المالي، هي أكثر ما يجعل البنوك المركزية متحسسة بشأن المضي قدما والتسريع بإصدار عملتها الرقمية، إذ أن استقرار النظام المالي جوهر عمل البنك المركزي، وإصدار عملة رقمية قد يوجد ما يصفه بعض الخبراء بمشكلة “الهروب نحو الجودة” عبر تفضيل المتعاملين هذا النمط النقدي ما يؤدي إلى زيادة سرعة تداول الأموال بشكل يوجد آثارا ضارة وخطيرة على النظام المصرفي والاقتصاد بشكل كبير. مع هذا يرى عديد من أنصار العملات الرقمية أن الاتجاه المتنامي حاليا في البنوك المركزية لمصلحة العملات الرقمية اتجاه صحي، يتعامل بمنطقية مع التطورات على الأرض. يقول لـ”الاقتصادية”، ك. إن. روبين، الخبير المصرفي والنائب السابق للمدير التنفيذي في بنك التسويات الدولية “بي آي إس”، تأمل البنوك المركزية في الدول الفقيرة أن تجلب العملات الرقمية للمواطنين الذين لا يتعاملون مع البنوك إلى النظام المالي، ما يعزز التنمية الاقتصادية، كما يساعد هذا النوع من العملات وعبر استخدام المواقع على الهاتف المحمول مثلا في تسريع عملية ضخ النقود بصورة مباشرة، وهذا أمر شديد الأهمية عند حدوث الكوارث الطبيعية كالزلازل مثلا، حيث يتم تدمير البنية التحتية ويصعب على سكان المنطقة المتضررة سحب أموالهم من البنوك”. هذه الاستخدامات الطموحة للعملات الرقمية لا تعني أن البنوك المركزية ستتوقف عن إصدار الأوراق النقدية، وإنما ستواصل إصدارها جنبا إلى جنب مع تلك المحافظ الإلكترونية، فالناس ما زالوا يشعرون بارتياح نفسي عند ملامسة أصابعهم للنقود. كما أن عديدا من الأشخاص ومن فئات عمرية مختلفة لا تزال علاقاتهم بالتكنولوجيا محدودة، ما يعيق عمليا استخدامهم للعملات الرقمية، كما تظهر تحديات أخرى إذا ما قام جزء كبير من المواطنين بتحويل أموالهم إلى عملات رقمية، حيث سيترك ذلك بصمات سلبية على السيولة المالية لدى البنوك. لكن تلك التحديات لا تنفي أن الاتجاه العام يسير نحو تقليص النقد المادي الملموس لمصلحة العملات الرقمية، والبنوك المركزية ترغب في أن تقتنص الجزء الأكبر من تلك الكعكة المالية قبل الآخرين.
المصدر:”الاقتصادية”
تعليقات الفيسبوك