قلق التضخم القادم.. هل فقدت البنوك المركزية السيطرة؟
تُظهر الصورة العامة للسوق الأمريكي أن أداء الأسهم كان إيجابيًا خلال مايو/ايار، بعدما سجل مؤشرا “داو جونز” و”إس آند بي 500″ مكاسب مقبولة على مدار الشهر، بعد أداء مبهر في الربع الأول، لكن في الحقيقة كانت هناك بعض التفاصيل المزعجة في طريق هذه النتائج.
شهدت الأسواق نوبات قلق متكررة خلال الشهر الماضي تقلبت معها المؤشرات الرئيسية بشكل ملحوظ، خاصة عندما كشفت البيانات الحكومية عن وصول التضخم إلى مستويات غير متوقعة، وهو ما سارع الاحتياطي الفيدرالي للتأكيد على أنه ارتفاع غير مستدام.
رغم تكرار أعضاء الفيدرالي منذ مارس/اذار الماضي أنهم لا ينون رفع الفائدة قريبًا، وأنهم لا يتوقعون انفلاتًا لمستويات التضخم، فإن اضطراب سوق الأسهم (لبضع جلسات) يعكس وجود شعورًا مستترًا لدى بعض المستثمرين، مفاده أن الأمر قد يخرج عن السيطرة عند مرحلة ما.
الرئيس التنفيذي لشركة “بلاك روك”، أكبر مدير أصول في العالم “لاري فينك”، حذر من “صدمة كبيرة جدًا للمستثمرين” من جراء تسارع التضخم، مشيرًا إلى أن البنوك المركزية حول العالم وعلى رأسها الفيدرالي، قد تضطر إلى إعادة تقييم سياستها إذا أصبح ارتفاع الأسعار مصدر قلق.
في ختام تعاملات يوم الأربعاء، قفزت أسعار الذهب إلى أعلى مستوى لها منذ 5 أشهر، لتسجل 1909.9 دولار للأوقية، وذلك كله بسبب تملك مخاوف التضخم من المستثمرين، ورغم مواصلة الأسهم لمكاسبها.
رغم المسيرة الإيجابية للأسواق هذا العام، فإن الأمور تبدو قاتمة أحيانًا (لبعض من الوقت)، وتتزايد الأصوات المحذرة مثل “فينك”، داعية إلى البنوك المركزية إلى التيقظ.. فهل يدرك المصرفيون المركزيون ماهية الوضع الذي يتعاملون معه بالفعل؟
التهديد في كل مكان
طمأن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الأسواق، بشكل شبه أسبوعي تقريبًا منذ مارس/اذار، بأنه لا يتوقع خروج التضخم عن السيطرة في الأشهر المقبلة، حتى بعد أن وصلت المخاوف بشأن التضخم الخطير الذي قد يلحق الضرر بالاقتصاد العالمي إلى الذروة.
أظهرت بيانات وزارة العمل الأخيرة أن التضخم الأمريكي وصل إلى 4.2% خلال الاثني عشر شهرًا المنتهية في أبريل، وهو أعلى مستوى منذ الأزمة المالية العالمية بين عامي 2007 و2009، ومع ذلك يصر الفيدرالي على أن الضغوط مؤقتة فقط.
قفز التضخم لدى الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أعلى مستوى منذ عام 2008، وفي منطقة اليورو، بات من المؤكد تقريبًا أن التضخم خلال الفترة المتبقية من هذا العام سوف يتجاوز هدف البنك المركزي الأوروبي القريب من 2%.
بالنسبة للأسباب، يتفق محافظو البنوك المركزية على جانبي المحيط الأطلسي على أن هذه الزيادات في الأسعار هي نتيجة مؤقتة للتأثير السريع لوباء “كوفيد 19″، الذي أحدث اضطرابًا قويًا في سلاسل التوريد وتسبب في تقلب الأسعار.
قال رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق في نيويورك “ويليام دادلي”، إنه من المرجح أن الارتفاع الأخير في التضخم في الولايات المتحدة مؤقت في الوقت الحالي، لكنه قد يصبح أكثر ثباتًا في السنوات القادمة مع عودة المزيد من الناس إلى العمل.
في المقابل يشير النقاد إلى مخاطر ضغوط الأسعار التي قد تقود إلى سلسلة من ردود الفعل، حيث يتوقع حينها الجميع ارتفاع الأسعار في المستقبل، مما يتسبب في حلقة تضخمية حقيقية ترتفع معها الأسعار بالفعل وبشكل متواصل في جميع المجالات.
انهيار الإجماع
قديمًا، كان جليًا أن محافظي البنوك المركزية يعلمون ما يتعين عليهم فعله للتعامل مع التضخم، لكن الآن حيث يصارعون العواقب الاقتصادية لوباء فيروس كورونا، انهار الإجماع على أفضل السبل لتعزيز نمو الأسعار المنخفض والمستقر.
بعد سنوات من تحديد أسعار الفائدة على أساس توقعات التضخم والسعي لتحقيق هدف يبلغ نحو 2%، تتبع السلطات النقدية الرائدة في جميع أنحاء العالم استراتيجيات مختلفة حاليًا. كان التحول في إستراتيجية الولايات المتحدة هو الأكثر جذرية.
حذرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هذا الأسبوع من أن “اليقظة مطلوبة”، ولكن أي محاولة لرفع أسعار الفائدة يجب أن تكون “معتمدة على الدولة وموجهة بالتحسينات المستمرة في أسواق العمل، وعلامات ضغوط التضخم الدائمة والتغيرات في موقف السياسة المالية”.
غير بنك الاحتياطي الفيدرالي موقفه لإعطاء مزيد من المساحة للتضخم وأولوية أكبر للتوظيف، والبنك المركزي الأوروبي منخرط في خلاف حول ما إذا كان سيكون أكثر تسامحًا مع أي تجاوز للتضخم، وبنك اليابان يكافح عبثًا من أجل إنعاش توقعات نمو أسعار المستهلكين.
كلٌ في واديه
أعلن رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي “جيروم باول” العام الماضي عن إطار عمل نقدي جديد، ويسعى إلى إنهاء عقود من الزيادات الاستباقية في أسعار الفائدة لدرء الضغوط التضخمية المحتملة مع السعي بإصرار إلى التوظيف الكامل، وهي استراتيجية يقول إنها ستفيد المزيد من الأمريكيين، بما في ذلك العمال ذوي الأجور المنخفضة والأقليات.
سيسمح الفيدرالي للتضخم بأن يتجاوز هدف 2% لبعض الوقت بعد فشل طويل الأمد، أملًا في ضمان أن تتوقع الأسواق، استقرار الفائدة عند مستويات منخفضة لفترة طويلة، وبالتالي ستنفق الشركات المزيد بدلاً من الادخار. أحد دوافعه هو تجنب تكرار موقفه بعد الأزمة المالية، عندما أدى تشديد السياسة إلى إبطاء التعافي.
لكن البعض يشعرون بقلق متزايد من أن استراتيجية بنك الاحتياطي الفيدرالي صُممت لأجل عالم من السياسة المالية الحذرة، وليس لعصر الوباء الذي ينبغي أن يحفز الاقتراض والإنفاق الهائل، وهذا سيجعلها متأخرة إذا تصاعدت ضغوط الأسعار.
التزم بنك اليابان بدفع التضخم على مدى السنوات الخمس الماضية، لكنه لم يقترب حتى من هدفه البالغ 2%، ومن اللافت للنظر أن القليل قد تغير بعد الوباء، إذ لا يبدو أن التضخم يلوح في الأفق ونمو الإنفاق بطيء. الأسر والشركات اليابانية مقتنعة بأن التضخم سيظل قريبًا من الصفر، مما يجعل من المستحيل على بنك اليابان تحقيق هدفه.
في غضون ذلك، ينخرط صانعو السياسة في منطقة اليورو في جدال حاد بينما يجري البنك المركزي الأوروبي مراجعة لسياسته الخاصة؛ سيتم الإعلان عن النتائج في سبتمبر/ايلول.
في إشارة على حدة الانقسام، قال “أولي رين” محافظ البنك المركزي الفنلندي: من وجهة نظر الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية، من المنطقي قبول فترة معينة من تجاوز التضخم للهدف، مع الأخذ في الاعتبار تاريخ تخلفه عن الهدف.
لكن “إيزابيل شنابل”، المديرة التنفيذية بالبنك المركزي الأوروبي، حذرت من أن ذلك سيكون محفوفًا بالمخاطر، قائلة: رغم أنه لا ينبغي للبنك المركزي أن يبالغ في رد فعله إذا تجاوز التضخم بعد الركود، إلا أني “متشككة” في استهداف متوسط التضخم بشكل رسمي خلال فترة محددة.
بالنسبة لبعض الاقتصاديين، فإن هذه الخلافات خارجة عن الموضوع الأساسي وهو أن مظلة السياسة النقدية أصبحت ممتدة لدرجة أن المحافظين يفتقرون إلى الأدوات الفعالة للقيام بالمزيد، والأكثر أنهم أصبحوا مختلفين في ما بينهم الآن.
المصادر: أرقام- فاينانشيال تايمز- ذا كونفرزيشن- سي إن بي سي
تعليقات الفيسبوك