مستقبل الرعاية الصحية بعد كوفيد 19

غيّر فيروس كورونا المستجد نواحي مختلفة من الحياة في العالم ، و كثير منها لن يعود كما كان وهذه حقيقة يجب أن نعتادها. ولعل أكثر القطاعات تأثراً و تحولاً سيكون قطاع الرعاية الصحية بلا شك الذي واجه كماً هائلاً من الصعوبات و التحديات المفضية للابتكار التي ستتضاعف بتحول الجائحة الى مرض موسمي يمتد لسنوات مقبلة حسبما يشير إليه الاجماع الطبي حتى اللحظة.

أربع نقاط تتحدث عن أهم ملامح الابتكار و التطور في الرعاية الصحية خلال خمس سنوات مقبلة ، ولا يصح اعتبار هذه المشاهد منفصلة عن سياق تطورالمؤسسات الصحية الاستراتيجي في العقدين الأخيرين بل تعجيلاً في تطوير بعض أشكال الرعاية و اصطفاء للأصلح منها لتلبية متطلبات المرضى في السنوات المقبلة.

أولاً: حلول الرعاية الصحية عن بعد : خلقت القفزة التكنولوجية في التواصل و الاتصال منذ بدايات القرن الحالي حلولاً جديدة لتقديم رعاية صحية عن بعد و هي التي تعرف بحسب جمعيات طبية مختلفة بأنها كل انماط تبادل المعلومات و التوجيهات الصحية الكترونياً سواء بصورة حية مباشرة أو مسجلة مسبقاً بين مقدم الرعاية و المريض. الحاجة لهذه الأنماط ظهرت في حينه للالتفاف على صعوبة الوصول لبعض الحالات المرضية او لتوفير تعاون طبي عابر للدول و القارات في ذات اللحظة .

هذه الحلول لاقت تشكيكاً و تحدياً كبيرا عند ظهورها لبدائية الوسائل التكنولوجية و سرعتها المنخفضة نسبياً قبل عشرين عاماً ، كما أن اعتراضاً طبياً وقف أمامها بحجة المجازفة بجودة الرعاية المقدمة إن تمت عن بعد. وهكذا راوحت هذه الطفرة مكانها لسنوات قبل أن تبدأ بالقفز و النمو اضطراداً نظراً لانتفاء المعيقات السابقة . فالتكنولوجيا باتت أكثر جدارة بنقل المعطيات الطبية ، حيث نمت منافذ الرعاية المقدمة عن بعد في العالم بنسبة 17% بين الأعوام 2017-2020 ، و تلقى ما يزيد عن سبعة ملايين مريض في العام 2018 شكلا من أشكال الرعاية عن بعد. كل ذلك لم يكن على حساب الجودة ، فقد أفاد 85% من المرضى المعالجين في الولايات المتحدة مثلاً بأن رعايتهم عن بعد قد حلت مشاكلهم بشكل مرضي.

واقع مرض كوفيد 19 الجديد خلق تسارعاً مطرداً في تطوير هذه الحلول ، فقواعد التباعد الاجتماعي و العزل المنزلي للمرضى و تجنب الناس العاديين لمؤسسات الرعاية الصحية الا للضرورة للتقليل من التقاط العدوى حفز خبراء الرعاية الصحية لتقديم وسائل و قنوات مختلفة عملية للوصول الى مرضى العزل المنزلي أو لكبار السن الذي سيخاطرون إن خرجوا من البيوت ؛ فتنوعت الاساليب من المكالمات الهاتفية و الفيديو وصولاً لتوصيل الأجهزة الطبية كأجهزة قياس الحرارة و أكسجين الجسم عن طريق “إنترنت الأشياء – Internet Of Things ” التي ساهمت بخلق شبكة متكاملة منزلية متصلة بالمؤسسة الصحية بكل سلاسة و يسر.

استجابة للتسارع في الطلب سيبلغ حجم سوق الرعاية الصحية عن بعد 130 مليار دولار بحلول عام 2025 ، وهي سوق ستتصف بالكلفة المنخفضة نسبياً و الوصول السريع للطبيب و مقدم الرعاية الطبية مقارنة بعمل زيارة فعلية للمؤسسة الصحية ، كما انها تعد بتشبيك افضل الخبرات الطبية بشكل غير مسبوق .

وما الذي سينعكس من كل ذلك على منطقتنا العربية ؟ سترون العيادات و المستشفيات تخصص أرقاماً هاتفية خاصة للاستشارات المدفوعة من خلال التأمينات الصحية مثلاً باعتبار أن ذلك أقل تكلفة و مخاطرة على المؤمن وستلاحظون مؤسسات صحية كثيرة تتواصل معكم بفحوصاتكم و وصفاتكم الطبية عبر البريد الإلكتروني . التفاوت في البنية التكنولوجية التحتية في المنطقة العربية سيشكل عاملاً حاسماً لفتح المجال أمام المزيد من التطور بحيث تصل الى ما عرضناه سابقاً ، فالخدمات الطبية الملكية الأردنية مثلاً تتعاون مع شركات تكنولوجية متعددة منذ عام 2013 لتطوير تواصل سلس بين مدينة الحسين الطبية و مرافق وزارة الصحة البعيدة في الطفيلة و المفرق مثلاً .

إن أهمية تطوير الرعاية الصحية عن بعد يكمن في تغييرها للهدف من الرعاية المقدمة عموماً، فهي لن تبقى رعاية قائمة على شكل الخدمة بل على نتيجتها .

ثانياً: الاستثمار في خيارات الصحة الرقمية : تمثل خيارات الصحة الرقمية خطوة متقدمة تضع بين يدي الأصحاء و المرضى على حد سواء تطبيقات رقمية و الكترونية متنوعة محمولة بالجيب ( على الهاتف الجوال) أو على اجهزة الحاسوب بحيث تساهم أولاً في الوقاية وثانياً في الكشف المبكر عن طيف واسع من الأمراض و الاختلالات التي قد تسبب مزيداً من التعقيدات عند اكتشافها متأخراً و ثالثاً ولعله الأكثر إثارة ؛ إمكانية الوصول لكم هائل من البيانات في وقت متزامن سيمكننا من فهم أفضل للأمراض و التحديات الصحية المقبلة.

الاستثمار في هذا القطاع كان محموماً في العقد الأخير ، في السنة الماضية فقط بلغ حجم الاستثمارات المالية في الشركات الناشئة في مجال الصحة الرقمية 8.4 مليار دولار عالمياً . ويتوقع لهذا الرقم أن يتضخم بسرعة خلال الخمس سنوات القادمة بعد النجاحات التي حققتها تطبيقات الصحة الرقمية خلال انتشار كوفيد 19 .

فمن الهند و حتى اسرائيل ، استخدمت التطبيقات الرقمية لتتبع المصابين بفيروس كورونا المستجد بفعالية و تحديد مخالطيهم خلال إطار زمني محدد مما ساهم في حصر الإصابات و عدم توسعها . كما استخدمت المملكة المتحدة بكثافة تطبيقات رقمية ساعدت المرضى على تقييم حالتهم بأنفسهم ليسهل استقبالهم وتصنيفهم عند وصولهم لمراكز الطوارىء . وانضمت شركتا جوجل و أبل لجهود ضبط التباعد الاجتماعي و الحد من الحركة خلال تفشي الوباء ، فوفرت كلتاهما بيانات شفافة و معلنة حول حركة التجمعات السكانية مما ساعد السلطات الصحية على تقييم الالتزام المجتمعي في كل مدينة .

وتوفر هذه التطبيقات معلومات هامة جداً على صعيد ” البيانات الضخمة” ، وهي تساعد حالياً على سبيل المثال في رصد الأنماط الوبائية و الإشارات المبكرة لمرض كوفيد 19 التي توفر تنبؤاً دقيقاً بأكثر الحالات خطورة للتمكن من علاجها بشكل مكثف.

لا يخلو ذلك من تحفظات هامة و محسوسة تتعلق بالخصوصية و سرية المعلومات الشخصية و حرية اختيار مشاركتها من عدمه. وهذا ما دفع دولاً كثيرة للتحفظ على استخدام التطبيقات المختلفة خلال الجائحة و عدم نشرها إلا بعد ضمان سرية معلومات المستخدمين مثل ألمانيا و المملكة المتحدة ، فيما اضطرت المحكمة العليا الإسرائيلية لتقييد و إنهاء عمل هذا التطبيقات باعتبار أن مشغلها هو جهاز الامن العام الاسرائيلي “الشاباك” بما لا يدع مجالاً للدفاع عن الخصوصيات في هذا المثال.

ثالثاً: الاستثمارات الحكومية في الصحة العامة : شكل الانتشار السريع لفيروس كورونا المستجد تحدياً مهماً للبنية التحتية الصحية في العالم متمثلة بالقدرات الاستيعابية المادية ( أسرة و مرافق) و التقنية ( أجهزة و مختبرات ) ، و رأس المال البشري من كوادر طبية و خبراء .

وقد بات نمو الإنفاق الحكومي على القطاع الصحي سمة مشتركة بين اقتصادات الدخل المرتفع أو المتوسط ، و ضعفه أو تراجعه صفة غالبة على الدول ذات الدخل المنخفض البعيدة عن الحوكمة الرشيدة في الانفاق . فمنذ عام 2012 وحتى 2017 نما الانفاق على الرعاية الصحية في ألمانيا بنسبة 24% ، بينما تسجل الدول العربية نسب نمو تقل عن ذلك بكثير ( 5-7%- في فلسطين بلغت نسبة النمو 2% فقط ) .

بطبيعة الحال يقود النمو في الانفاق الى توسع عام و خاص بمشاريع البنية التحتية ذات التكلفة المرتفعة في القطاع الصحي تحت بند النفقات التطويرية أو الرأسمالية ، وهذا الذي يفرز التمايز في البنى الصحية الوطنية و يجعل بلداً مثل ألمانيا صاحب أعلى عدد من أسرة الرعاية الحثيثة ( 29.2 لكل 100 ألف نسمة) ويجعل منطقتنا العربية تحت تهديد قلة هذه الأسرة بالنسبة لعدد السكان ( تتراوح بين 2 – 8 أسرة رعاية حثيثة لكل 100 ألف نسمة) . و لهذا وبكل بساطة بقينا تحت تهديد مرض كوفيد 19 و اضطرت السلطات الصحية لاتخاذ أقصى الإجراءات و التدابير ، فالنظام الصحي لن يستوعب الارتفاع المفاجىء في الطلب على أسرة الرعاية الحثيثة و سننتقل لاختيار الأولويات بحالة شبيهة من ” طب الحروب”.

هذا الشعور بالوقوع تحت التهديد المستدام ، سيدعم نمو الانفاق الحكومي النوعي على القطاع الصحي خلال السنوات القادمة ؛ فالجميع لامس الخطر وأدرك بملموسية اولوية رعاية صحية مميزة نوعاً قبل أن تكون كافية كماً . و عكساً على الواقع الفلسطيني مثلاً فقد أشارت مؤسسة أمان في دراستها حول النفقات التطويرية في الموازنة العامة الفلسطينية للعام 2019 المنشورة في بداية العام 2020 ، الى خلل جوهري يتمثل بضعف شديد في مخصصات النفقات التطويرية من موازنة وزارة الصحة الفلسطينية حيث لا تتجاوز نسبتها 9% ، و باعتماد شبه تام على المنح الخارجية في تغطية المشاريع التطويرية للبنية التحتية الصحية .

إن الضعف المزمن في الانفاق على المشاريع التطويرية سيتفاقم خلال السنتين القادمتين ؛ فبمطابقة أهداف الاستراتيجية الوطنية لوزارة الصحة و المعلنة للأعوام (2017-2022 ) مع تقديرات الموازنة العامة الفلسطينية لذات الفترة ، يتوقع أن تواجه مشاريع وزارة الصحة فجوة تمويلية تقدر بنصف مليار شيكل. و هو ما سيقضم بكل تاكيد البقية الباقية من تمويل محدود لكل المشاريع التطويرية و سيحد بشكل ملموس من تحديث البنية التحتية الضعيفة أصلاً للنظام الصحي الفلسطيني.

رابعاً: التحديث في طب الأمراض المعدية و المنقولة و علاجاتها: انهمك البحث العلمي الدوائي في منتصف القرن الماضي بتطوير مختلف الحلول الجديدة كلياً من مضادات حيوية و فيروسية لتعالج الأمراض المعدية التي تبدأ من الانفلونزا و لا تنتهي عند السل ، إلا أن السيطرة على جزء مهم من هذه الأمراض و الوباءات المتعلقة بها بدأ يدفع المهتمين و شركات الأدوية لمساحات جديدة في العقدين الأخيرين ؛ فباتت العلاجات ذات الاصل الحيوي و علاجات السرطان و الإيدز في لب اهتمام الباحثين الذين انصرفوا قليلاً عن الأمراض المعدية .

ونتاجاً لذلك انخفض مثلاً عدد المضادات الحيوية المطورة من 16 دواءاً عام 1987 الى اثنين فقط عام 2011 ، ولم يتم اكتشاف أو تطوير فصيلة (عائلة) جديدة من المضادات الحيوية منذ أكثر من خمسة و ثلاثين عاماً .

فجأة ومنذ شباط الماضي ، بات كل مختصي تطوير الأدوية عزلاً من أي سلاح جديد يواجهون به تفشي فيروس كورونا المستجد، وبدأ التدعثر في الركض وراء علاج أو لقاح بما أوقع البشرية جمعاء و كل الأنظمة الصحية الوطنية في دوامة من الخيارات غير واضحة الجدوى أو المأمونية. وهكذا يخلق مرض كوفيد 19 واقعاً جديداً يدفع الجميع للعودة الى هذه الفضاءات المتروكة سابقاً لتدور فيها عجلة البحث و التطوير و ستبقى تدور لسنوات قادمة على أمل تطوير علاجات و لقاحات متعددة لامراض معدية مختلفة.

إن ما استعرضناه كان لمحة مستقبلية لما سيكون عليه شكل الرعاية الصحية و أولوياتها في السنين القادمة ، ولكن تبقى كل هذه الأولويات رهناً برعاية البيئة المؤدية للابتكار و التي ستبقى دونها الرعاية الصحية قاصرة على الشكل و بعيدة عن القيمة و النتيجة .

دوماً كانت الحاجة أم الاختراع ، ولعلها أصدق توصيف لشكل الابتكار في القطاع الصحي الذي يرزح تحت ضغط شديد عالمياً و يتوقع أن يستمر لسنوات قادمة و لا مفر من الابداع للتكيف مع الواقع الجديد .

                                                                                                                                       

 

 

بقلم: د. الصيدلاني شداد عبد الحق

تعليقات الفيسبوك

اضف تعليق