أزمة ميزان المدفوعات.. تركيا أمام خيارات صعبة

انخفض حجم الاستثمار الأجنبي المباشر الذي جذبته تركيا بشكل مطرد من ذروته التي شهدتها البلاد في 2006-2007. ويبدو أن ثقة المستثمرين في تركيا كانت فقط لإقامة مراكز إقليمية وللاستثمار في الشركات ورؤوس الأموال كانت تتراجع لفترة طويلة.

انخفاض الصادرات

تعتمد تركيا على التصدير، إلا أنها غالبا ما تكون مستوردا صافيا، وأصبح هذا أكثر وضوحا خلال جائحة كوفيد-19. فعلى الرغم من تقلص العجز التجاري التركي في 2019، إلا أنه آخذ في التوسع مرة أخرى. لقد زادت الواردات بينما انخفضت الصادرات، لا سيما في قطاعات التعدين والتصنيع، حيث أدت تداعيات الوباء العالمي الاقتصادية إلى انخفاض الطلب.

وكانت وكالة موديز قد خفضت تصنيف تركيا من “B1” إلى “B2” مؤخرا وحذرت من أزمة اقتصادية أعمق، مستشهدة بأزمة ميزان المدفوعات.

زيادة الفائدة

وحذر المحللون من أزمة حادة في ميزان المدفوعات منذ 2018، ويبدو أن زيادة البنك المركزي التركي لسعر الفائدة بمقدار نقطتين مئويتين (إلى 10.25 في المائة) في أواخر سبتمبر/ايلول، مثّلت اعترافا بأن الوضع كارثي ويجب التحرك لحلّه.

وقال البنك المركزي التركي الاثنين الماضي، إن عجز ميزان المعاملات الجارية في أغسطس/اب، قد زاد إلى 4.631 مليار دولار مقارنة بفائض قدره 3.3 مليار دولار في نفس الشهر من سنة 2019.

ولكن، وعلى الرغم من زيادة أسعار الفائدة، لا تزال المشكلة الأساسية كما هي. إذ يبقى استقلال البنك المركزي التركي موضع شك، ويفتقر المستثمرون الأجانب إلى الثقة في الاقتصاد التركي.

الاساس الاقتصادي

استند النجاح الاقتصادي الذي شهدته تركيا خلال السنوات الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، من 2002 إلى 2007، إلى أساس اقتصادي متين أنشأه كمال درويش، وزير الاقتصاد خلال حكومة بولنت أجاويد في 2001-2002. وتمثّل أحد نجاحات درويش في جعل البنك المركزي مستقلا عن سياسة الحكومة.

التزم حزب العدالة والتنمية في البداية بالبرنامج الاقتصادي الذي أنشأه درويش بالشراكة مع صندوق النقد الدولي، لكن الإصلاحات المهمة تراجعت. ويمكن القول إن النزعة الاستهلاكية المتأصلة في النظرة الاقتصادية الليبرالية لحزب العدالة والتنمية ساهمت في أزمة ميزان المدفوعات، حيث توسع الطلب التركي على السلع الاستهلاكية المستوردة. ويكمن الاحتمال الأكبر في أن يكون النمو القائم على الاستثمار الأجنبي والاستهلاك المدفوع بالديون ضعيفا وخاضعا للاتجاهات الاقتصادية العالمية.

الحاجة الى التنويع

كما تساعد أزمة ميزان المدفوعات المستمرة في تفسير تصرفات تركيا في شرق البحر المتوسط إلى حد ما. إذ تحتاج إلى مصادر للطاقة بشدة لتقليل الاعتماد على واردات الوقود. كما أثّر انخفاض قيمة الليرة أيضا على صناعة البناء بشكل خطير. وبالتالي، تحتاج الحكومة التركية إلى التنويع من أجل وقف الانحدار المستمر في الناتج المحلي الإجمالي التركي الذي كان يتسارع مع تأثير التضخم على مستويات المعيشة.

الاستقلالية السياسية

تعتمد تركيا في مجال الطاقة على روسيا، التي تستورد منها حوالي 38 في المائة من احتياجاتها من الوقود. ونظرا إلى أن تركيا وروسيا تدعمان أطرافا متصارعة في حروب بالوكالة في سوريا وليبيا وإلى حد ما في قره باغ، فإن هذا يمثل عبئا كبيرا، بالإضافة إلى كونه عاملا مساهما في أزمة ميزان المدفوعات التركي وبالتالي ضعف الليرة.

وقال صانعو السياسة السابقون في البنك المركزي لرويترز إن سعر الفائدة يحتاج إلى الارتفاع لكن المشكلة الأساسية تكمن في افتقار البنك للاستقلالية السياسية. كما يتسبب تدهور العلاقات الدبلوماسية التركية في زعزعة ثقة المستثمرين، كما حدث في 2018 مع العقوبات الأميركية بسبب قضية القس برونسون، ثم بسبب شراء تركيا لأنظمة عسكرية روسية.

صندوق النقد الدولي

على الرغم من المشاكل المتأصلة المرتبطة ببرامج التكيف الهيكلي لصندوق النقد الدولي، قدم الصندوق والاتحاد الأوروبي قوتين خارجيتين للتوازن الاقتصادي التركي في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكنها لم تعد موجودة. وأصبحت عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي تحتضر، بينما قال أردوغان إن الأيام التي كانت فيها تركيا في حاجة إلى قرض من صندوق النقد الدولي قد ولّت.

وعلى الرغم من أن بعض المحللين يرون أن قرض صندوق النقد الدولي هو السبيل الوحيد للخروج من الاضطراب الاقتصادي في تركيا، فإن من المرجح أن يزداد الوضع الاقتصادي سوءا قبل أن يضطر أردوغان إلى عكس موقفه العدائي ويقبل بمساعدة صندوق النقد الدولي.

انتخابات مبكرة

وقد يكمن الضغط الآخر على أردوغان في فقدان الدعم للحكومة بسبب الأزمة الاقتصادية. فقد أعرب الناخبون الأتراك عن شكرهم لحزب العدالة والتنمية على تحسين مستويات المعيشة التي عاشوها خلال السنوات العشر إلى الخمس عشرة الأولى من حكم الحزب. لكن ذلك النمو لم يكن متكافئا. كما أن الناخبين الفقراء من الطبقة العاملة الذين يشكلون جزءا كبيرا من حزب العدالة والتنمية كانوا الأكثر تضررا من مزيج الوباء والتضخم.

ويواجه حزب العدالة والتنمية بعض الخيارات الصعبة. ومن المنطقي أن يدعو إلى انتخابات مبكرة إذا اعتقد أن الاقتصاد سيزداد سوءا. لكنهم لا يتمتعون بأغلبية ثلاثة أخماس في الجمعية الوطنية الكبرى التي يحتاج إليها للدعوة إلى إجراء انتخابات قبل سنة 2023. وهو بحاجة إلى اتخاذ إجراءات وتدابير اقتصادية صارمة تحمل تكاليف سياسية.

ارقام مُتفائلة

في الفترة الأخيرة، أصدر وزير الاقتصاد بيرات البيرق خطة اقتصادية لسنة 2021-2023. وأشار إلى أن البرنامج الاقتصادي الجديد يهدف إلى تحقيق نمو بنسبة 0.3 في المائة سنة 2020 وبنسبة 5.8 في 2021، وانخفاض عجز الميزانية تدريجيا خلال البرنامج الاقتصادي الجديد بنسبة 3.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية الفترة الحالية. ومع ذلك، تبدو هذه الأرقام متفائلة. إذ أشار استطلاع رأي لرويترز وشمل الاقتصاديين في يوليو/تموز، إلى انكماش بنسبة 4.3 في المائة في 2020. وفي سبتمبر توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية انكماشا في تركيا بنسبة 2.9 في المائة في 2020.

عجز ثابت

وكانت تركيا تعاني من عجز محدود في الميزانية طوال معظم فترة حكم حزب العدالة والتنمية، ولكنه كان ثابتا. وكان هذا العجز يتصاعد في السنوات القليلة الماضية، وقد يجبر انخفاض الإيرادات الضريبية الحكومة التركية الآن على التخلي عن بعض مشاريعها الضخمة الأكثر تكلفة، مثل قناة إسطنبول، التي ستفتح ممرا بحريا ثانيا بين البحر المتوسط ​​والبحر الأسود.

أزمة كورونا

لا أحد يستطيع أن يحدد إلى متى سيستمر كوفيد-19 في التأثير على اقتصادات العالم من خلال تقليل الطلب على السلع وصناعات الخدمات الرئيسية مثل السياحة مع القليل من الخيارات المتبقية لمعالجة أزمة ميزان المدفوعات في تركيا. ويصعب تجنب الانطباع بأن تركيا تتجه إلى انهيار خطير في العملة، أو إلى تدخل اقتصادي أكبر وغير مستساغ سياسيا.