“صناعة أشباه الموصلات” شفرة الاقتصادات الجديدة
“تقنية أشباه الموصلات” هي واحدة من القطاعات التكنولوجية شديدة الحيوية والأهمية، حيث تعد مرتكزا رئيسا في عالم التكنولوجيا المتنوع، إلى الحد الذي جعلها تلامس تقريبا كل مجال من المجالات الاقتصادية، وكان لها تأثير هائل على الاقتصاد العالمي على مدار الـ50 عاما الماضية.
هذا التأثير الهائل في الاقتصاد الدولي يتجلى في أرقام شديدة التضخم وغير معتادة، فتشير تقديرات مؤسسة “سيمزمتر” المتخصصة في مجال “أشباه الموصلات” إلى أن ما يقرب من 30 في المائة من إجمالي الابتكار الاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية في الفترة من 1960 – 2007 ينسب إلى تلك الصناعة، كما أنها تسهم في الولايات المتحدة بعائدات سنوية تقدر بـ300 مليار دولار.
وإذا كانت تلك الأرقام تخص الاقتصاد الأمريكي، فإنها على الصعيد العالمي أكثر قوة وضخامة، فمساهمة صناعة تقنية أشباه الموصلات في الاقتصاد العالمي تبلغ سبعة تريليونات دولار سنويا، من بينها 3.3 تريليون دولار مساهمات في قطاع الإلكترونيات والكمبيوتر، وفي مجال الصناعات العامة تقدر المساهمة السنوية بنحو 2.3 تريليون دولار، وفي مجال المركبات وقطاع المواصلات 1.4 تريليون دولار.
ووفقا لدراسة أعدتها مؤسسة Pwc البحثية عن تقنية أشباه الموصلات ومستقبلها، فإنها تخلص إلى أن المبيعات في هذا القطاع الحيوي ستبلغ 575 مليار دولار عام 2022، وأن مبيعات منتجات الذاكرة ستحافظ على أكبر حصة مع العائدات، وأن نمو السوق سيرتبط أكثر بصناعة السيارات وسوق الذكاء الصناعي.
الجزء الرئيس من تلك القوة يعود إلى طبيعة العصر الذي نحياه، فنحن نعيش في عصر غير مسبوق في إفراطه في التواصل والاتصال الإنساني، واليوم تدعم الهواتف الذكية الوسائط الاجتماعية وتصفح الإنترنت، وأشكال أخرى مختلفة من الاتصال تتيح للمستهلكين الوصول الفوري إلى آلاف التطبيقات والخدمات القائمة على الإنترنت، وغدا ستدعم أجهزة المحمول الواقع المعزز والشبكات ثلاثية الأبعاد وغيرها من الابتكارات التكنولوجية.
وسط هذا العالم التكنولوجي المعقد فإن “تقنية أشباه الموصلات” تمثل النواة الرئيسة للعالم الرقمي الذي نحياه، والذي سيزداد قوة وتغلغلا في حياتنا اليومية في الأعوام والعقود المقبلة.
تقول الدكتورة تينا باتيل أستاذة الاقتصاد الحديث في جامعة ويلز، إن “تقنية أشباه الموصلات يمكن اعتبارها شيفرة الاقتصاد الحديث، فالمنتجات المستخدمة في حياتنا اليومية تعتمد عليها تماما”، معتبرة أن صناعة أشباه الموصلات لديها دورة اقتصادية عنيفة، فعندما تنخفض المبيعات، فإن ذلك رسالة بوجود مشكلة مستقبلية في الاقتصاد العالمي، وعندما ترتفع المبيعات فالتفاؤل يسود.
وتضيف “لفهم انعكاسات الطلب على أشباه الموصلات ولا سيما شرائح الذاكرة، لا بد من الإشارة إلى أن تكلفة إنشاء مصنع لتصنيع أشباه الموصلات تبلغ مليارات الدولارات، وعندما يقفز الطلب كما حدث قبل ثلاثة أعوام يمكن زيادة الإنتاجية، أما عندما يتراجع الطلب تستمر الإنتاجية عند مستوياتها المعتادة، وذلك لأن طبيعة الصناعة ذاتها تفرض عليها ما يشبه الأتمتة التامة، ويوجد بها عدد قليل للغاية من العمال والموظفين بأجور ورواتب شديدة الارتفاع نظرا للخبرة المطلوبة في هذا المجال، ومن ثم عندما ينخفض الإنتاج لا يتم إنهاء تسريح العاملين، إذ إن عددهم منخفض منذ البداية، لكن الإنتاج يستمر بوتيرته المعتادة، ويؤدي هذا لإيجاد وفرة في المعروض وبالتالي تراجع الأسعار”.
في الواقع فإنه وقبل تفشي وباء كورونا تراجعت عائدات أشباه الموصلات في جميع أنحاء العالم 12.2 في المائة العام الماضي، حيث بلغت 418 مليار دولار، وذلك وفقا لأحدث تحديث من شركة البيانات الدولية “أي دي سي”.
وترجع الشركة ذلك إلى مجموعة من العوامل من بينها نمو الاقتصاد العالمي بوتيرة هي الأبطأ منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، والخلافات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وارتفاع مستويات المخزون في مجالات معينة مثل الهواتف المحمولة والبنية التحتية السحابية، ما أثر سلبا في الأسعار. وتراجع الطلب على كل من DRAM 37.3 في المائة وANND 27.7 في المائة بعد أكثر من عامين من النمو القوي.
ويتوقع جوف سيمند الخبير الاقتصادي انخفاض إجمالي سوق أشباه الموصلات هذا العام بنحو 4.2 في المائة حيث يصارع الاقتصاد العالمي للتعافي من وباء كورونا.
ويقول إن “العام الماضي شهدت معظم الشركات في هذا المجال انخفاضا في الإيرادات، وعدد قليل تمتع بوضع جيد، فقد استعادت شركة انتل ريادتها في السوق لتصبح مرة أخرى أكبر شركة من حيث الإيرادات”.
ويضيف “جائحة كورونا ستؤدي إلى انكماش آخر في سوق أشباه الموصلات هذا العام. لكن الانكماش سيكون مؤقتا وسيعتمد وضع الصناعة على مدى سرعة تعافي الأسواق، إلا أن الأمر المؤكد أن الأمد الطويل مليء بالنجاحات المستقبلية”.
التوقعات الإيجابية تجاه المستقبل مرتبطة من وجهة نظر جوف سيمند الخبير الاقتصادي بالمخططات المستقبلية المتعلقة بإطلاق تقنية 5G ، وعلى الرغم من عدم اليقين الراهن بشأن الطلب، إلا أن تلك التقنية سيكون لها انعكاسات إيجابية على إجمالي الطلب على أشباه الموصلات.
وإذا كانت صناعة أشباه الموصلات والإلكترونيات من الصناعات التي تضررت بشدة بسبب اعتمادها – في مجال الإنتاج – على الاقتصادات التي منيت بإخفاقات كبيرة نتيجة جائحة كورونا مثل الصين والولايات المتحدة والأسواق الآسيوية، فإن بعض القطاعات في هذه الصناعة تظل معرضة لمخاطر عالية مثل الإلكترونيات الاستهلاكية والسيارات، بينما تظل قطاعات أخرى تتمتع بحالة صحية جيدة مثل مراكز بيانات الحوسبة السحابية وتكنولوجيا الاتصالات والاتصال والرعاية الصحية.
المهندس جونسون داريك الخبير في مجال الاتصالات يطرح لـ«الاقتصادية» تصوره تجاه مستقبل صناعة أشباه الموصلات، بالقول إنه “في بيئة أعمال ما بعد الجائحة، بات من المؤكد أن تواجه الصناعة تحديات التصنيع المركز جغرافيا، وكذلك نماذج سلاسل التوريد السائدة في الصناعة منذ عقود، وعليها أن تتطلع إلى تغيير أو مشاركة قدرات التصنيع الحالية مع نماذج إمداد وتنوع أكثر مرونة ما يسمح بتقليل المخاطر مستقبلا”.
ويعتقد جونسون داريك أن الاتجاه المستقبلي سيعتمد على تحول عديد من شركات أشباه الموصلات والإلكترونيات من التركيز على الصين إلى توسيع قاعدتها الإنتاجية لتشمل الهند ودول نامية أخرى وأيضا الدول المتقدمة كالولايات المتحدة.
وبالفعل فإن شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات TSMC تعتزم إنفاق 12 مليار دولار لبناء وتشغيل مصنع لأشباه الموصلات في ولاية أريزونا الأمريكية، بينما تخطط نحو 200 شركة أمريكية لنقل قاعدتها التصنيعية من الصين إلى الهند خلال الأعوام الخمسة المقبلة.
ويرى بعض الخبراء أن توسيع القاعدة الإنتاجية لأشباه الموصلات قد يحمل في طياته نتائج إيجابية للصناعة والمستهلك، إضافة بالطبع إلى ما يضفيه ذلك التنوع من مرونة على العملية الإنتاجية.
بدوره، يقول أرث ديمين المحلل المالي في بورصة لندن، “عندما يكون إنتاج أشباه الموصلات متركزا بالأساس في دولة واحدة – الصين على سبيل المثال – فإن القدرة الاحتكارية لها تزيد، وينعكس ذلك على مستوى الأسعار بما يضر بمصلحة المستهلك، وقد يصعب استهدافها أو الضغط عليها من دولة خصم مثل الولايات المتحدة لأن ذلك سينعكس سلبا على الصناعة الأمريكية التي تعتمد على الإنتاج الصيني من أشباه الموصلات، أما في حال اتساع القاعدة الإنتاجية وتنوعها جغرافيا فإن الطابع الاحتكاري يتلاشى ومصالح المستهلك تتحقق بشكل إيجابي”.
وتشير البيانات المتاحة إلى أن أسهم شركات أشباه الموصلات قد تراجعت في نهاية الأسبوع الثاني من هذا الشهر بعد منع إدارة ترمب شحنات الرقائق إلى شركات هواوي الصينية، حيث أثار ذلك مخاوف من أن الحكومة الصينية قد تنتقم وتعمل على الأضرار بالشركات الأمريكية.
لكن التنوع الجغرافي المتوقع في إنتاج أشباه الموصلات، لا ينفي أن منطقة آسيا والمحيط الهادئ ستظل لها المساهمة الرئيسة في إيرادات تلك الصناعة، مع معدل نمو سنوي مركب قدرة 4.8 في المائة حتى عام 2022، يليها الولايات المتحدة التي تعد حاليا موطنا لعدد من الشركات الرائدة في هذا المجال، وهو ما يتوقع معه أن تحقق معدل نمو يبلغ 4.3 في المائة.
المصدر: «الاقتصادية»
تعليقات الفيسبوك